مقالات

مخطوفات «بوكو حرام» معاناة طواها النسيان

سعاد الوحيدي |
 
لعلها أكبر «حملة تنديد» عرفها مطلع هذا القرن، تلك التي خرجت تطالب بعودة أو استعادة الفتيات النيجيريات المخطوفات لدى جماعة «بوكو حرام» الإرهابية، حملة تزركشت خلالها أغلفة صحف ووسائل إعلام ومواقع تواصل اجتماعي بصور مشاهير من كل حدب وصوب من بينهم رؤساء ووزراء وسياسيون وسيدات ورجال مال وأعمال وفن ورياضة، يحملون جميعهم لافتة موحّدة – وإن تنوّعت لغاتها- تقول: «أعيدوا لنا فتياتنا».
 
 
عملية الخطف الجماعي، نفذتها جماعة «بوكو حرام» في 15 نيسان (أبريل) 2014، واستهدفت 230 طالبة في الصفوف الثانوية، خطفن من مدرسة داخلية في بلدة تشيبوك (في ولاية بورنو شمال شرقي نيجيريا)، تمكنت 43 منهن من الفرار من الخاطفين، لينلن إثر ذلك اهتماماً عالمياً خاصاً، وامتيازات متنوّعة، من بينها منحهن حق اللجوء الإنساني في أميركا ودول أخرى، فيما بقيت الأخريات (187 فتاة) في عداد المفقودات.
 
لا شك في أن السلطات النيجيرية بذلت في حينه جهوداً لا بأس بها للعثور على الفتيات، في ظل تظاهرات عارمة عمت البلاد، خرجت منددة بتقاعس الدولة عن بذل جهود أكبر للبحث عنهن. واللافت أن عمليات البحث كانت من دون جدوى، إذ بدا وكأن الأرض انشقت وابتلعت الفتيات، ليتبين بعد ذلك أن الخاطفين ساقوهن عبر الحدود إلى الكاميرون وتشاد، حيث تم عرضهن للبيع في مزاد علني لمصلحة فرع جماعة «بوكو حرام» الكاميروني، تفاوتت فيه أسعار الواحدة منهن بين ١٢ و١٥ دولاراً، وهو ما يذكّرنا بـ «سوق النخاسة» الذي كان تنظيم «داعش» الإرهابي يقيمه في الموصل وتلعفر والرقة، ليبيع حرائر من الأقلية الإيزيدية كسبايا لمن هب ودبّ من الـ «دواعش».
 
وعلى رغم أن موضوع الفتيات النيجيريات، على بشاعته، لا يرقى إلى مستوى الرّق والسبي الذي سقط على رأس الإيزيديات، إلا أن إجبار القاصر النيجيرية المسلمة على الزواج من كهل نتن دفع ثمنها للجماعة، لا يختلف في تفاصيله الهمجية كثيراً عن المصير ذاته. علماً أنه نُقل عن زعيم الجماعة أبو بكر شيكو قوله: «خطفت الفتيات وسأبيعهن في السوق وفق شرع الله».
 
شهادات متعددة تم تسجيلها عن احتفالات بزيجات جماعية جرت في غابة سامبيسا على الحدود الكاميرونية – النيجيرية (معقل جماعة «بوكو حرام»)، وهو ما يمكن تصنيفه في إطار العنف الجنسي، واستغلال البشر لغايات شهوانية؛ من خلال توظيف السلاح والخطف، ويعكس الخلفية البائسة لتلك النزعة الشبقة لأعضاء الجماعة الإرهابية والتي تتجلى في الاحتفاظ بالفتيات على قيد الحياة، كأجساد طرية تستخدم لإشباع شهوات جنسية لا غير. وهذا ما تؤكده أيضاً جرائم «بوكو حرام» في مدارس الصبيان الذين يتعرضون لاغتيالات جماعية مرعبة.
 
ما تقدّم من أحداث قديمة بائسة، ليس في الواقع موضوع هذه المقالة، ولا التذكير بها غايته، وإن وجب ذلك في الذكرى الخامسة لاختطاف الفتيات النيجيريات، بل المقصود هنا هو إثارة تفاصيل تلك الكارثة الإنسانية لاستخدامها في صياغة وطرح سؤال مؤلم مفاده: هل ثمة في هذه الأمة من اهتم أو يهتم بالسؤال عن مصير فتياتنا وأين أصبحن بعد كل هذه السنوات؟ ذلك أنه على رغم الحملة غير المسبوقة التي واكبت الحدث في حينه من قبل الرأي العام العالمي والإسلامي (نددت منظمة التعاون الإسلامي بأشد العبارات بعملية الخطف)، إلا أن مصير الفتيات بقي طَيّ النسيان. وكانت النتيجة أن تمادت «بوكو حرام» في السخرية من العالم وتذكيره بتفوقها في هذه اللعبة القذرة من خلال مواصلتها خطف نساء نيجيريات فرادى وجماعات بين وقت وآخر لتعزيز «مخزونها» الهائل من السبايا المخصصات لمتعة أفرادها، واللواتي سرعان ما يطوي مصيرهن النسيان والتغييب، على رغم الوعود العالمية الكبيرة التي قطعت باستمرار الحملات المطالبة بعودتهن حتى تتحقق أهدافها. (زوجة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند على سبيل المثال عاهدت بأن تغرد كل يوم من أجل الصبايا المخطوفات وحتى عودتهن إلى الديار).
 
في واقع الأمر لم يعد لمخطوفات «بوكو حرام» مع مضي الوقت أي ذكر وعلى أي مستوى كان، وكأن العالم قد اعتاد على التعامل مع الكوارث بأسلوب النسيان، حتى إن حادثة خطف جماعي مماثلة قامت بها «بوكو حرام» في 19 شباط (فبراير) 2017، واستهدفت 110 طالبات في مدرسة ثانوية في منطقة دابتشي شمال نيجيريا، لم تلق اهتماماً يذكر، ولعل اللافت في ما يتعلق بهذه الحادثة هو تغير معطيات التعامل مع الأمر، سواء في نيجيريا أم في بقية أرجاء العالم، إذ لم تُرفع لافتات تطالب بعودة المخطوفات في شكل فوري، ولم نسمع تصريحات نارية في هذا الخصوص، بل تم التعامل مع الأمر بأساليب سرية، لدرجة أن تم التستر على عملية مقايضة للمخطوفات بمبالغ مالية مهمة دفعتها الدولة النيجيرية وجهات «صديقة» إلى الخاطفين.
 
هذه التفاصيل التي تأكدت في ما بعد، لم تكن مخفية كثيراً في بيان أصدره وزير الإعلام النيجيري لاي محمد، استعرض فيه نجاح بلاده في تأمين الإفراج عن الفتيات «من خلال جهود عبر قنوات غير رسمية، بمساعدة من بعض أصدقاء الدولة» وفق ما قال. وشدد الوزير النيجيري في هذا الصدد على «سلمية العملية»، على رغم تأكيد مقتل خمس فتيات أثناء تنفيذها، وقال محمد: «حتى ينجح الإفراج عن الفتيات، كان لدى الحكومة إدراك تام بأن العنف والمواجهة ليسا الحل لأنهما قد يعرّضان حياة الفتيات للخطر، لذا كان اتباع نهج بعيد من العنف هو الخيار المفضل».
 
تجدر الإشارة إلى أن غالبية الفتيات عدن بالفعل بعد يومين، فيما بقي مصير طالبة مسيحية رفضت إشهار إسلامها مجهولاً، بينما قُتلت خمس مخطوفات وهو ما يذكّر بأخريات ُقتلن جراء غارات جوية على مواقع «بوكو حرام» أو في مواجهات مسلحة بين فصائل الجماعة والجيش النيجيري، كما يذكّرنا بمخطوفات فضلن الانتحار أو القفز من سيارات مسرعة أملاً في النجاة (بعضهن ذهبن إلى الموت نتيجة معاناتهن عوارض متلازمة ستوكهولم، إذ تحوّلن إلى كاميكاز في عمليات انتحارية خططت لها بوكو حرام واستخدمتهن لتنفيذها). وثمّة من وافتهن المنية وواجهن الموت البطيء في متاهات الأسر. كل ما تقدّم يجعل أكثر من سؤال مؤلم يطفو على سطح الفجيعة: أين البقية؟ ولماذا تركناهن لمثل هذا المصير المظلم؟
 
كان عليّ الانتظار حتى نهاية الشهر الماضي، لأحصل على بضعة إجابات حول هذا البؤس النيجيري، إجابات سمعتها من صاحبات الجرح أنفسهن، إنما بعيداً من نيجيريا، فعلى رغم أنني تمكّنت من الوصول إلى الإيزيديات (في جبال سنجار ذاتها، أو في مناطق النزوح عند أطراف كردستان العراق)، إلا أن فرصة فتح هذا الملف مع ضحايا «بوكو حرام» تمت في الواقع في لوكسمبورغ، في إطار المؤتمر الدولي الذي دعت إليه دوقة لوكسمبورغ الكبرى ماريا تيريزا، والذي يهدف إلى مناهضة العنف الجنسي أثناء النزاعات، وتم خلاله التعامل مع ضحايا «بوكو حرام» ليس فقط «كمخطوفات سابقات»، إنما كضحايا للعنف الجنسي أثناء النزاعات المسلحة، وهذا ما يؤسس لاعتراف له أهميته الخاصة في رتق النسيج النفسي للضحية، ويسبق – كأرضية أساسية لصيرورة التحول نحو الشفاء – مسألة جبر الضرر، وتحقيق العدالة.
 
إن كشف اللثام عن طبيعة الجرم، ووضع اليد على الجرح بكل تفاصيله، ووضع كل ذلك أمام الأنظار ليتم تحديد حجم المأساة وتداعياتها، هو الباب والمدخل الأساس لكل تلك الصيرورة. هذا البُعد، كان بالذات موضوع نقاشاتي المطولة مع الضحايا خلال خلوة لوكسمبورغ، ذلك أن ما لا نعرفه عن وجع كل صبية، وما هو أبعد من فاجعة الخطف، هو ذلك الإحساس المريع بالأسر والسبي وتحوّلها إلى مجرّد جسد يدميه الاغتصاب اليومي المفزع والمقزز، يلي ذلك انقطاعاتها عن الدراسة، إذ إن جرم هؤلاء الفتيات بالأساس، والذي دفع بوكو حرام إلى استباحة حريتهن، هو ارتيادهن «مدارس الكفار»، والأمر هنا يتعلق بصبايا كنّ على مسافة قصيرة من دخول الجامعة (في عصر الإنترنت والعولمة)، ما يجعل من وقع المصاب مضاعفاً.
 
البحث عن الحرية، كان يسكن خواطر الفتيات المخطوفات اللواتي كنّ في كل لحظة يخططن للفرار الذي تحوّل إلى هاجسهن اليومي، وبالفعل تمكن بعضهن من الفرار مستغلات فرص الاشتباكات المسلحة والتنقلات المختلفة ليعدن إلى الديار.
 
إن المفاجأة التي جعلتني أغادر لوكسمبورغ ممزقة الوجدان، تتجلى في ذلك المصير الذي كان ينتظر من تمكنّ من الإفلات من جحيم «بوكو حرام» بعد سنوات الأسر والفجيعة وبعدما قطعن مسافات خرافية سيراً على الأقدام في رحلات كانت تتسم بالبعد والوعورة والخطورة، قطعنها مع أطفال على أيديهن أو في أحشائهن، ذلك أني تبلّغت بأن العائلة ترفض استقبال الصبية المخطوفة بعد عودتها! وتطردها القبيلة من رحمتها، إذ يتحول وجودها إلى عار يجب التستر عليه. وبذلك يبقى اللجوء إلى مخيمات اللاجئين المنتشرة على الحدود هو الحل والملاذ.
 
في تلك الأمكنة الحزينة، تنتهي حياة العائدات من جحيم «بوكو حرام» لتتحوّل إلى بؤس وجودي مفجع، يناقض كلية الصورة الدعائية الأولى التي تصدرت الإعلام العالمي تضامناً معهن.
 
إحدى العائدات اليائسات اللواتي يمضين أيامهن في أحد تلك المخيمات قالت لي عندما التقيتها: «إن كل ما أصابني من صواعق القهر وكل عذاباتي في الأسر والعبودية، وكل ليالي الاغتصاب المفجعة وتخلي أهلي عني، وإقامتي في مخيم مخصص للمشردين أضعه في كفة، وأن أعجز اليوم عن العودة إلى مقاعد الدراسة في كفة أخرى».
 
إن عجز هذه الصبيّة العذبة المحيا، يعود إلى ضيق الإمكانات المادية ليس أكثر، يضاف إليه عجز أولئك الذين يديرون تلك المخيمات عن توفير أبسط حق لضحايا «بوكو حرام» وهو حقّهن في ارتياد مدارس، وعجز مشاهير العالم عن التزام ما وعدوا به من مساعدة على عودة المخطوفات إلى ديارهن ومدارسهن واستكمال تعليمهن، وليس إلى مجاهل جديدة. في ظلّ أمة عاجزة حتى عن أن تبكي ضحاياها، يبدو أن ليس لضحايا «بوكو حرام» من يبكي أوضاعهن.
 
* كاتبة ليبية.