مقالات

منطقة أوسكدار في إسطنبول.. حين تجتمع عراقة الأناضول وتاريخ العثمانيين 

غيداء أبو خيران


حافظت أسكدار على عراقتها على مدى عقود طويلة وتشرّبت من الشرق وقيمه وعاداته وطبائعه ما يستحيل أن يمحوه الزمن
إحدى الضواحي القديمة للقسطنطينية، ظلت على مدى عقودٍ حلقة وصل بين الأناضول الذي يمثل الشرق وبيزنطة بكل ما تحمله معها من الغرب، إلا أن الناظر لأسكدار الآن، بمساجدها القديمة وشوارعها الملتوية صعودًا ونزولًا وبيوتها الخشبية العتيقة، سيدرك حالًا أنه أمام واحد من الأحياء الشعبية الأصيلة في المدينة العريقة، حافظت على عراقتها على مدى عقود طويلة وتشربت من الشرق وقيمه وعاداته وطبائعه ما يستحيل أن يمحوه الزمن.

يرجع تاريخ أسكدار إلى القرن الـ7 قبل الميلاد، أي قبل عقود طويلة من تأسيس بيزنطة على الجانب المقابل من البسفور، أقام فيها بدايةً المستعمرون اليونانيون القدماء وحملت اسم “سكوتاريون Skoutarion”، والذي يعني في البيزنطية “الجلود المدبوغة”، إذ كانت مركزًا لصناعة الجلود المستخدمة في دروع المحاربين، ثم تحول الاسم لاحقًا إلى إكسودار أو إسكوتير.

كانت المنطقة تستخدم كميناء ومحطة لبناء السفن، مما جعلها نقطة انطلاق مهمة في الحروب بين الإغريق والفرس آنذاك، في عام 324، وقعت المعركة النهائية بين ليسينيوس إمبراطور الشرق وقسطنطين الأول إمبراطور الغرب الذي جعل من “القسطنطينية” عاصمة نهائية للدولة البيزنطية، وبذلك أضحت “أسكدار” من ضواحي العاصمة، وبقيت ذات أهمية كبيرة طوال فترة الحكم البيزنطي نظرًا لأنها كانت تشكل البوابة لجميع طرق التجارة مع آسيا، كما كانت تُعتبر درعًا لحماية الدولة من الجيوش القادمين من القارة الآسيوية.

حاولت الجيوش العربية والإسلامية الدخول لأسكدار في القرن الـ8 الميلادي تقريبًا، مما تسبب بتدمير كبير للمنطقة وخسائر نوعية، إلا أن محاولة الهجوم فشلت، إلى أن نجح الزعيم العثماني أورهان غازي عام 1338 بالاستيلاء عليها، وبذلك كانت الخطوة الأولى للمسلمين بالاقتراب من كبرى الإمبراطوريات في ذلك الوقت، بعد أن أصبحوا على مرأى من القسطنطينية، وغيروا الاسم بعد استقرارهم إلى “إسكي دار” أي “الدار القديمة”.

في الفترة العثمانية، كانت أسكودار واحدة من المجتمعات الثلاث الكبرى خارج أسوار مدينة القسطنطينية، جنبًا إلى جنب مع إيوب وغالاتا، وتشكل مجتمعها بفعل موجات الهجرة للمسلمين القادمين من مناطق الأناضول بعد الفتح الإسلامي للقسطنطينية عام 1453، وما زالت حتى يومنا هذا جزءًا عريقًا يمثل التقاليد الأناضولية الإسلامية الشرقية في إسطنبول.

ووفقًا للرحالة والمؤرخ التركي أوليا شلبي الذي عاش في القرن الـ17، فإن “أسكُدار” كانت تتألف من 70 حيًا للمسلمين، تسكنها أغلبية ذات أصل أناضولي، بالإضافة إلى 11 حيًا للمسيحيين الأرمن والروم، وحيًا يهوديًا واحدًا، بالإضافة إلى أنها كانت المركز التجاري الرئيسي للتجارة حتى إنشاء الخط الحديدي في نهاية القرن الـ19، حيث كان التجار الإيرانيون والأرمن يلتقون بقوافلهم فيها، عوضًا لكونها أيضًا محطة توديع الحجاج المتوجهين إلى مكة المكرمة مع السرية التي كان السلطان يكلفها بإيصال المعونات والهدايا إلى أشراف الحجاز، وما زالت تلك المحطة حتى يومنا هذا تحتفظ باسمها “حرم Harem” الذي يدل على “الحرم المكي”.

تضم المنطقة عددًا من المعالم التاريخية العريقة، لعل أشهرها “برج الفتاة”، وهو برج صغير في منتصف البحر عند المدخل الجنوبي لمضيق البوسفور، يبعد نحو 200 متر عن ساحل أسكُدار، وقد قيل في سبب بنائه إن إمبراطورًا أحب ابنته حبًا جمًا راوده ذات ليلة حلم يقول إن أفعى ستلدغها في عيد ميلادها الـ18 وتموت، فلم يجد الأب وسيلة لحماية ابنته سوى أن يبعدها عن اليابسة، حيث ردم جزءًا من مضيق البوسفور وبنى لها برجًا في منتصف المياه، في محاولة منه لإبعاد احتمال وصول أي أفعى إليها، إلا أن القدر كان أقوى، فقد اشتهت الفتاة عنبًا وطلبته من والدها، الذي أرسل لها سلة مملوءة بالعنب دون أن يدرك أن ثمة أفعى تسللت إليها.

ومن لحظة اقترابك عبر سفينة تحملك للحي القديم، سيباشر عينيك منظرٌ لجامع عتيق، يحمل آثار المعماري الخالد سِنان الذي حملت اسمه الكثير من جوامع إسطنبول والدولة العثمانية، يحمل الجامع اسم “مهرمه سلطان”، وهي ابنة السلطان سليمان القانوني، ويعني اسمها في الفارسية “الشمس والقمر”.

يُشكل هذا الجامع الجميل تحفة معمارية من الداخل والخارج، إلا أن أكثر ما يميزه عن بقية جوامع إسطنبول، أنه في شهري نيسان وأيار حين تنظر وقت الشروق مباشرة للجامع من ارتفاع عالٍ من برج النارÇemberlitaş” في منطقة بيازيد، فإنك سترى إشراقة الشمس بين منتصف مئذنتيه، كذلك في مساء اليوم الرابع عشر من كل شهر سترى طلوع القمر بنفس المشهد.

الغريب أيضًا في قصة الجامع هذا، أن المعمار سنان حين بناه، بنى جامعًا مماثلًا له في الشق الأوروبي من المدينة، في منطقة أدرنه كابي تحديدًا، وعلى نفس الاستقامة تمامًا، ليكون قادرًا على رؤية نفس المشهد من القارة الأخرى.

ما تختلف به أسكدار عن غيرها من مناطق إسطنبول التاريخية، أن ما فيها من آثار ومعالم مثل الجوامع والحمامات والأسواق والأحياء القديمة، ليست للسياح وإنما للمحليين الشعبيين، فنادرًا ما تلمح سائحًا يتجول في أطرافها المخبئة، ولعل أدق وصفٍ يمكن أن توصف بها المنطقة أنها أشبه بقريةٍ صغيرة وسط مدينة كبيرة جدًا، اختارت السكينة والهدوء على زحمة المدن الكبيرة.

تقدم لك أسكدار تجارب رائعة ما بين التاريخ والهدوء والطعام الجيد وحمامات الاسترخاء ومنظر الغروب المميز حين تنسدل الشمس وراء الطرف الآخر من البسفور إلى الخلف من قصر الباب العالي وجامع السلطان أحمد وآيا صوفيا وغيرها من المعالم التاريخية القديمة جدًا.

فإذا كنتَ ترغب بالاقتراب أكثر من الثقافة التركية المحلية، عليك بزيارة أسكدار، فهي المكان الذي يجمع السكان المحليين الأصليين بعيدًا عن زحمة السياح والحشود الكبيرة في الأماكن السياحية.

حي كوزكونجوك: حاضر جميل وتاريخ منوع

ما بين سحر ألوان البيوت والبنايات والطبيعة الخلابة الممتدة بين هضبةٍ ومضيق، يقع الحي القديم في منطقة أسكدار، والذي حاكَ لنفسه ثوبًا تمازجت فيه حداثة الألوان وعتاقة العمارة فعكست بكل جمالٍ وصفاءٍ على نفوس من يسكنها من أشخاص.

الزائر لهذا الحي، يَحسبُ أنه خرج من قوس قزح أو من بيتٍ للألعاب، فكل ما على أرضه من طرق وجدران ومنازل وأبواب ونوافذ ومقاهٍ ومكتبات قد ارتدى مزيجًا فاخرًا من الألوان، وبالإضافة لذلك، لعل أهم ما يميز الحي هو تنوعه الديني الكبير، فلا تستغرب في حال مررتَ بجامعٍ وكنيسةٍ وكنيسٍ وأنت تسير بنفس الشارع.

في اللغة التركية، فاسم الحي يعني “الغراب الصغير”، أما السر وراءه فيَروي الرحالة التركي “أولياء تشلبي”، أن الحي أخذ اسمه من رجلٍ صالح لُقب بذلك اللقب، سكن الحي في زمن محمد الفاتح.

أما في العصر البيزنطي، سُميت هذه المنطقة بـِ”هريسوكيراموس”، والذي يعني “البلاط الذهبي”، نسبةً للكنيسة ذات السقف المُذهب الموجودة هناك، أما عن الوجود اليهودي في الحي، فقد بدأ خلال القرن الخامس عشر، حين قامت الدولة العثمانية باستقبال اليهود الفارين من إسبانيا والبرتغال بعد سقوط الأندلس، إذ أتاحت لهم الدولة حرية اختيار مكان الإقامة، فاختاروا حيي “بلاط” و”كوزكونجوك” بشكلٍ أساسي، وأُعطوا مُطلق الحرية بممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية، فتم بناء أول كنيس يهودي في الحي عام 1835.