مقالات

نكون او لا نكون.. فلسطين بين الأمل وخيبة الأمل

ابراهيم محمد الهنقاري
اكتب هذا الحديث بمناسبة مرور سبعين سنة على اغتصاب فلسطين.
اعرف ان قضية شائكة ومعقدة كقضية فلسطين لا يكفي للحديث عنها مقال صحفي واحد ولكنها تحتاج الى مجلدات والى أبحاث ودراسات من المورخين ومن ذوي الاختصاص.
ان هذا الحديث لا يستهدف لا الى التقليل من تضحيات الشعب الفلسطيني الصابر ولا الى التقليل من جهود المناضلين الفلسطينيين وتضحياتهم من اجل قضية فلسطين بل هو مجرد محاولة لالقاء نظرة مختلفة عما تعودنا عليه عند تناول هذه القضية العربية الكبرى بعد ان طال مدى الاحتلال وبعد ان فقدت قضية فلسطين زخمها وحرارتها على يد المحتل الغاصب لها من جهة وعلى يد بعض أبناء فلسطين وعلى يد ذوي القربى من العرب والمسلمين الذين كان الأمل معقودا عليهم لتحريرها من جهة اخرى . ان هذا الحديث هو مجرد محاولة لإعادة قراءة كتاب “فلسطين والعرب” بعقل مفتوح ومجرد من العواطف الكاذبة احيانا والمسمومة احيانا اخرى لعلنا نجد بعد تلك القراءة ما يعيننا على تصحيح اخطائنا والبحث عن طريق جديد قد يقودنا الى تحقيق الأمل المنشود
قال أمير الشعواء احمد شوقي في قصيدته المعروفة في رثاء شيخ الشهداء الليبيين عمر المختار طيب الله ثراه:-
سبعون لو ركبت مناكب شاهق … لترجلت هضباته إعياء.
وبعد اقل من أربعة أشهر اي بحلول يوم ١٥ مايو ٢٠١٨ يكون قد مر على نكبة احتلال فلسطين سبعون عاما.
والله وحده يعلم كم ركبت سبعون فلسطين من المناكب .!؟ وكم مرة ترجلت هضباتها من التعب والشقاء. وكم مرت بها من الاهوال . وكم عرفت من القيادات. وكم شهدت من التنظيمات. وكم رات من الزعامات. وكم سمعت من الاكاذيب ومن بيانات الشجب والتنديد وكم خسرت من الرجال والنساء والولدان وهي تقاتل بكل ما يصل الى يدها. بالبنادق والرصاص احيانا وبالصواريخ البدائية احيانا اخرى وبالسكاكين احيانا وبالحجارة في معظم الأحيان. وكان الأمل وكانت الغاية من كل ذلك النضال الدامي هو ” تحرير فلسطين. “
ومن أمين الحسيني الى احمد الشقيري الى ياسر عرفات الى محمود عباس عاش الفلسطينيون حلم العودة وحلم التحرير دون ان يتحقق اي من الحلمين رغم مرور سبعين عاما على احتلال فلسطين.
خلال هذه السنوات السبعين تحررت ليبيا وتونس والجزاير والمغرب من الاستعمار. وتحررت دول في الخليج العربي من الاحتلال وتحررت شعوب أفريقية عديدة من الاستعمار الفرنسي والاستعمار البريطاني والاستعمار البلجيكي ونالت استقلالها. وتحررت شعوب اخرى في اسيا وفِي أمريكا الجنوبية. وظلت فلسطين وحدها تحت الاحتلال الاسرائيلي وظل حلم العودة مجرد حلم يراود سبعة اجيال من الفلسطينيين والعرب حتى الان . فما هو السبب. ومن هو المسؤول عن هذا الفشل الفلسطيني العربي الكبير !؟.
للإجابة عن هكذا سؤال وبهكذا حجم وبهكذا أهمية لابد ان ننظر الى قضية فلسطين بعين مختلفة وبعقل مختلف وبأسلوب مختلف أيضا.
ان اول ما يجب ان نعترف به هو اننا نحن الفلسطينيون ونحن العرب هم المسؤولون عن ضياع فلسطين. يكفي اننا ظللنا اكثر من سبعين عاما اَي منذ ما قبل ١٥ مايو ١٩٤٨ وحتى الان نفعل كل يوم كل ما يمكن العدو الاسرائيلي المحتل من احتلال ارض فلسطين وأراض عربية اخرى.
فقد بدأت الهجرات اليهودية الى فلسطين مبكرا. ولم نفعل شيئا لإيقافها.وظللنا نضع اللوم دائماً على وعد بلفور وعلى الحكومة البريطانية التي أعطت ما لا تملك لمن لا يستحق.
عراب ” الدولة اليهودية ” اليهودي البولندي ديفيد بن غوريون هاجر الى فلسطين عام ١٩٠٦ وعمره عشرون عاما وبدا يخطط وينفذ المشروع اليهودي في فلسطين يعينه في ذلك دون شك يهود اخرون حتى تمكن من اعلان قيام ” اسرائيل ” على ارض فلسطين في الخامس عشر من مايو ١٩٤٨ ونحن عنه وعن كل ذلك غافلون.
أسس اليهود الجامعة العبرية في القدس عام ١٩١٨ وتم افتتاحها عام ١٩٢٥. وكان من بين مؤسسيها ألبرت أينشتاين وغيره من كبار العلماء والشخصيات اليهودية. كان الهدف الواضح من ذلك هو إعداد الكوادر العلمية والفنية والمهنية اليهودية لتكون جاهزة للعمل عند اعلان قيام ” الدولة اليهودية ” في فلسطين بعد ذلك بثلاثين عاما. ونحن عن كل ذلك غافلون.
كان اليهود وقياداتهم يفكرون بعقولهم وقلوبهم وكنا نحن العرب والفلسطينيون نفكر بألسنتنا وحناجرنا.
كانوا يعملون في صمت ونحن نصرخ . كانوا يفعلون ما يريدون ونحن لا نفعل شيئا. كانوا هم أولوا الالباب وكنا نحن أولوا الجلباب. هم يخططون ويدرسون خطواتهم بدقة وعناية. ونحن نتخبط ونكرر أخطاءنا في كل مرة.
أرسلنا جيوشنا العربية الى فلسطين غداة اعلان قيام “اسرائيل” دون تخطيط ودون تنسيق ودون تسليح مناسب. ودخلنا مع اليهود بعد ذلك في اربع حروب لم نعد لها الإعداد الصحيح فكانوا ينتصرون علينا في كل حروبنا معهم وكنا دائماً نحن المهزومين.
بين أنشاص ١٩٤٦ والرياض ٢٠١٨ اَي خلال اثنين وسبعين عاما عقدنا ما يقرب من أربعين “مؤتمر قمة ” عربي فشلت جميعها في تحقيق الحلم الفلسطيني وتحرير فلسطين.
انضمت كل المليشيات اليهودية التي كنا نسميها بالعصابات الصهيونية الى جيش قوي واحد اسماه اليهود ” جيش الدفاع الاسرائيلي ” وهو الجيش الذي هزمنا عام ١٩٤٨ وعام ١٩٥٦ والذي استطاع عام ١٩٦٧ ان يهزم اكبر ثلاثة جيوش عربية من بينها ما كان اعلامنا الزائف المزيف والضال المضلل يصفه بانه ” اكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط ” وحرمنا من الاستفادة من الانتصار المحدود الذي تحقق بالعبور في حرب أكتوبر عام ١٩٧٣واستطاع ان يضيف الى احتلال ما كان يحتله من فلسطين في ذلك الوقت ما تبقى من ارض فلسطين التاريخية وهي الضفة الغربية لنهر الاْردن وأضاف اليها صحراء سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية. وما تزال الضفة وما يزال الجولان محتلين ولاتزال السيادة المصرية ناقصةفي سيناء . ولم تعد القضية هي قضية تحرير فلسطين وحدها بل أصبحت القضية هي قضية تحرير فلسطين والأردن وسوريا ومصر.
ابرمنا اتفاقيات الصلح والتطبيع مع “العدو الاسرائيلي” وأقمنا معه العلاقات الدبلوماسية وأقمنا له سفارات في بعض عواصمنا وتبادلنا “المصالح ” بيننا وبينه سرا وعلانية. وكان ذلك كله لصالح ذلك “العدو”. ولم يجد المواطن الفلسطيني في ذلك الا المزيد من القهر والمزيد من المعاناة ليس من قبل “العدو الاسرائيلي” وحده بل من بعض ” اشقائه ” العرب ايضا.
قام اكبر فصيل فلسطيني وهو حركة “فتح” ومعناها بالمناسبة “حركة تحرير فلسطين” ولكن بالمقلوب،
قام هذا الفصيل بابرام “اتفاقية أوسلو” مع العدو الاسرائيلي المحتل لفلسطين تنازل بموجبها لليهود عن ما يقرب من ثمانين في المائة من مساحة فلسطين التاريخية مقابل إقامة “سلطة” فلسطينية مصابة بالشلل والزهايمر ولا تملك لا من امرها ولا من امر الفلسطينيين شيئا. وهكذا اعترف الفلسطينيون بما يسمى “اسرائيل” دون ان تعترف الاخيرة بما يسمى “دولة فلسطين” وعاصمتها “القدس الشرقية” اي ما قد تبقى من فلسطين بعد أوسلو . اما القدس الغربية فأصبحت ملكا لليهود بموافقة من الفلسطينيين.
تقلصت مطالبنا اذن بعد أوسلو من استرداد كامل التراب الفلسطيني الى المطالبة بما كان قد تبقى من هذا التراب الفلسطيني يوم ٧ يونيو ١٩٦٧. وتخلينا عن المطالبة بكل فلسطين. وهكذا كانت مطالبنا تقل كلما زادت الرقعة المحتلة من ارضنا العربية والفلسطينية.
هذا ما جنته علينا مواقفنا عربا وفلسطينيين. او بالأحرى هذا ما جنيناه لانفسنا
فهل يجوز لنا ان نستمر في هذا النهج الذي أفقدنا ارضنا وكرامتنا وجعل العالم يحتار في امرنا.
كيف نطالب بتحرير فلسطين بعد ان قدمناها للعدو الاسرائيلي بإرادتنا وبعد ان وقعنا معه اتفاقيات التطبيع والاعتراف وتبادلتا معه السفراء .!؟
وحتى لو سحبنا توقيعات فتح او منظمة التحرير الفلسطينية على كل اتفاقياتنا مع “اسرائيل” وحتى لو سحبت بعض الدول العربية اعترافها بإسرائيل فانه لا العالم ولا العدو الاسرائيلي سيقبل ذلك لان تلك الاتفاقيات وذلك التطبيع أصبحا أمرا واقعا وأصبحت المطالبةً بكامل التراب الفلسطيني نوعا من العبث السياسي الذي صنعناه بايدينا.
ولكن ذلك كله لا يعني الاستسلام ولا يعني التخلي عن مطالبنا المشروعة في استرداد فلسطين المخطوفة . ففلسطين لنا وأرضها ارض عربية وشعبها شعب عربي كما كنت اقول بأعلى صوتي في برنامج “ركن فلسطين” الذي كنت أقدمه انا وزملائي في الإذاعة الليبية في ستينات القرن الماضي.
ان تلك الحقائق المرة انما تدعونا بل تفرض علينا ان نعيد النظر في طريقة وأسلوب تناولنا لقضية فلسطين وهي ستظل القضية العربية الاولى الى ان يتم تحريرها بالكامل من مغتصبيها.
اول ما ينبغي فعله فلسطينيا هو حل كل التنظيمات الفلسطينية الحالية ودمجها في منظمة واحدة هي “جبهة تحرير فلسطين” كما كان الشأن مع جبهة التحرير الجزائرية خلال سنوات الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي. يجب التخلص من كافة المنظمات الفلسطينية القائمة حاليا كما تم التخلص من المنظمات الجزائرية المماثلة. فلا فتح ولا حماس ولا جهاد إسلامي ولا جبهة شعبية ولا جبهة ديموقراطية ولا ايديولوجيات دخيلةً على الشعب الفلسطيني. يجب ان تنصهر كل تلك المنظمات التي قسمت الشعب الفلسطيني وشوهت نضاله وجهاده من اجل التحرير طيلة سبعين عاما في جهة واحدة فالكفاح الفلسطيني يجب ان يكون جادا وواحدا وموحدا ولا علاقة له في مرحلة الكفاح من اجل التحرير لا بالاخوان المسلمين ولا بكارل ماركس ولا بجيفارا.
وأول ما ينبغي فعله عربيا هو إلغاء كافة “المبادرات” العربية التي تدعو الى الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها والعودة الى لاءات الخرطوم الثلاثة : لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع اسرائيل. .
وتحمل كافة الدول العربية لمسؤولياتها بشكل جدي وعملي وواضح ومعلن للعالم كله ماديا وعسكريا وسياسيا لدعم الكفاح الفلسطيني الموحد من اجل التحرير وتوفير كل ما يحتاجه الشعب الفلسطيني من الدعم والمساندة الفعلية والجادة من اجل تحقيق هذا الهدف القومي النبيل. وإعلان ان ذلك هو الموقف العربي الرسمي غير القابل للمساومة حتى يتم تحرير كافة الاراضي الفلسطينية المحتلة وعودة المهجرين اليهود الى الأقطار التي قدموا منها. وعلى جميع الدول العربية ان تتوقف عن الكيل بمكيالين فيما يتعلق بقضية العرب الاولى .
لا نريد لا مؤتمرات قمة ولا مؤتمرات وزراء خارجية الجامعة العربية العاجزة الكسيحة ولا نريد مزيدا من بيانات الشجب والاستنكار. نريد شيئا واحدا فعلا لا قولا : نكون او لا نكون.
اما اذا كنا غير قادرين على ذلك فسيكون البقاء للأقوى عسكريا وسياسيا وفكريا ولَك الله يا فلسطين.
ولكم الله يا عرب.
هذه صرخة غضب لله ولفلسطين وللعرب بعد ان وصلت قضية فلسطين الى طريق مسدود في ذكراها السبعين .