مقالات

ثورة في النظام العالمي أم فوضى؟

جميل مطر – الخليج

عادت أوروبا لتعيش ذكريات بعض أسوأ أيامها، كان الظن أن سنوات الجوائح والأوبئة والمجاعات والحروب والهجرات، كلها ولّت إلى غير رجعة. كان الظن أيضاً أن العصر الذهبي الذي كانت تعيشه دول أوروبا لسنوات بعد انقضاء الحرب الباردة هو التعويض المناسب لقارة عانت طويلاً وكثيراً. خاب الظن، أو كهذا يبدو لنا. نحن أهل الجنوب الذين دفعوا ثمناً باهظاً للتعامل مع آثار هذه المعاناة الأوروبية على امتداد عصور ما بعد الظلام. دفعناه وبعضنا في إفريقيا ما يزال يدفع تحت ضغط استعمار قديم متوحش أو جديد ظالم، وإن بشكل متطور ومتجمل، وفي ظل عنصرية تكشف أحياناً عن قبح مقزز؛ كما يحدث في فلسطين.

دفعتني إلى هذه المقدمة حالة في العلاقات الدولية تبدو في مظهرها غير جديدة، وليست طارئة، وهي في جوهرها جديدة وطارئة. تبدو في المظهر تكراراً لسياسة عدم الانحياز التي دشنتها الهند مع دول في العالم النامي في منتصف عقد الخمسينات من القرن الماضي للتعامل مع حالة دولية بعينها، وهي ليست كذلك. الحالة الدولية الراهنة تختلف جذرياً عن الحالة الدولية في الخمسينات من القرن العشرين. هي أقرب ما تكون إلى حالة اندفاع متهور ورهيب نحو فرض هيمنة دولة كبرى واحدة ومحو نفوذ كل الدول الكبرى الأخرى، أو نحو تعددية قطبية تتوازن القوة فيها بعد حرب ضروس وتتوزع مسؤولية القيادة على قطبين أو ثلاثة لا أكثر. يدرك العالم النامي بخاصة أنه لا ناقة له أو جمل في هذا الاندفاع المتهور إلا حقيقة أن المعارك الكبيرة بين القوى المتصارعة حتى النهاية سوف تمتد لتجري فوق أرضه وضد مصالحه وثرواته ومستقبله.

السؤال المفجر لهذا المقال أثاره موقف الهند من الصراع الأمريكي الروسي الدائر على الأرض الأوكرانية. للهند دور في نشأة وقيادة حركة الحياد الإيجابي، لكن الهند في خمسينات القرن العشرين ليست هي الهند في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وآسيا ليست آسيا والعالم ليس العالم. الهند اختلفت. الهند التي كانت تعد دوراً وقائداً في حد ذاتها أو مع أقران لها هي الآن، على الرغم من تقدمها في التكنولوجيا والإنتاج الصناعي والزراعي، تقضي بعض وقتها باحثة عن اعتراف بها كإمبراطورية تاريخية. يؤمنون في حزبها الحاكم بسردية أمة هندية تعيش على أراضٍ تمتد في الشمال من أفغانستان وباكستان وبنغلاديش والتبت ونيبال وبوتان وسكيم وشرقاً من ميانمار وجنوباً حتى سيريلانكا وفي المحيط الهندي حتى جزر المالديف.

الهند تاريخياً سابقة على نظريات وتطبيقات معاهدة وستفاليا ومبادئها. الهند التاريخية حسب عقيدة الحزب الحاكم ليست دولة ولن تقبل في مستقبل الأيام أن يعاملها الآخرون كدولة، لأن هذه المعاملة تفرض قسراً وعمداً إنكار حقها في الجزء الأغلب من إقليم جنوب آسيا، وتفرض الخناق على ثقافة ممتدة في بطون التاريخ وقد آن أوان بعثها.

تابعت مسيرة الحزب الحاكم في الهند وصعوده العنيد، وتابعت تاريخ الرئيس مودي منذ ظهر على مسرح السياسة في ولاية جوجارات.

ورث مودي تراثاً متعدد الأبعاد. ورث نظاماً سياسياً ديمقراطياً استمر عن اقتناع من جانب جميع حكام الهند بعد الاستقلال وكان مصدر فخرهم. تسبقهم في زياراتهم وفي المؤتمرات السياسية الدولية وتتكرر على ألسنة السياسيين الغربيين عبارة “الهند.. الديمقراطية الأكبر في العالم”. تحميهم في الداخل وتصون مكتسباتهم بيروقراطية حسنة التنظيم والإدارة وضع الإنجليز أسسها هي والنظام القضائي وتقاليد تضبط علاقة المدني بالعسكري، هكذا بقيت الهند حتى وقت قريب ليست فقط الديمقراطية الأكبر وإنما أيضاً الدولة النامية ذات الاستقرار السياسي الأطول.

أقول بقيت حتى وقت قريب لأن الهند مثلها مثل معظم الدول النامية الأخرى لم تفلح تماماً في التخلص من داء القومية المتطرفة ومشكلات العقيدة الدينية المتشددة وحساسيات التفرقة الدينية والعنصرية ووهج الأساطير الموروثة. كل واحدة من هذه المعضلات كان يمكن أن تتسبب في انفراط الهند مجدداً بعد انفراطها الأول إلى دولتين فور الاستقلال. لم تنفرط مجدداً لسببين على الأقل. السبب الأول، أنها تمتعت خلال معظم الفترة التي أعقبت إعلان الاستقلال بنخبة سياسية متفتحة وعلمانية ومؤمنة بالديمقراطية استطاعت باعتدالها ومرونتها التغلب على الصعوبات المترتبة عن رسوخ هذه المعضلات.

السبب الثاني أن الهند انتهجت نهجاً في السياسة الخارجية جنّبها الوقوع في شراك دوائر العنف في علاقاتها الخارجية. الخلاصة أحسنت الهند في سياساتها الخارجية حين تمسكت بمبدأ عدم الانحياز؛ إذ كافأها العالم باحترام مواقفها وحرص على عدم الضغط عليها لاستتباعها لطرف أو آخر.

فجأة نشطت من جديد قوى الصراع في النظام العالمي. وفي رأي أصدقاء من الخبراء أن ما نشب لا يحمل كل صفات الفوضى، إنما هو طلائع ثورة في النظام العالمي قد تثبت لنفسها استحقاقها لقب الثورة الخاتمة في سلسلة ثورات وانتفاضات ثانوية نشبت خلال الفترة من سبعينات القرن الماضي إلى اليوم. نتمعن في أمر هذه الفوضى أو الثورة فنرى بالوضوح الممكن دولة عظمى تستخدم كل أساليب العنف باستثناء أسلوب التدخل المباشر، الهدف غير المعلن هو إخلاء الساحة من القوى المنافسة الصاعدة بتدرج أو الصاعدة قفزاً نحو القمة.

على هذه الناحية من النظام الدولي تقف أيضاً الصين الصاعدة قفزاً نحو القمة، تقف في انتظار هجمة أمريكية قادمة من دون أدنى شك. ومع ذلك أو بسبب ذلك أعلنت منذ بداية الأزمة الأوكرانية تعاطفها مع روسيا والاستعداد لدعمها إن دعت الحاجة. كان واضحاً أن الصين، وهي مدركة التهديد المتوقع لأمنها الاقتصادي ولخطط صعودها لو أنها تحالفت مع روسيا ضد أمريكا، وضعت في حسبانها ضرورة كسب الوقت للاستعداد لما بعد انتهاء أمريكا من حملتها على روسيا. يتوقعون في موسكو وخارجها أن الصين لن تسمح بسقوط روسيا وخروجها من سباق القمة.

الهدف من الحرب غير المعلنة والناشبة الآن هو تغيير بنية وقواعد عمل النظام العالمي ومؤسساته لمصلحة طرف أو طرفين أو الأطراف الثلاثة مجتمعة. النجاح في صنع وتنفيذ هذا التغيير يعني وقوع ثورة في النظام الدولي وفي مجمل العلاقات الدولية. الفشل في صنع هذا التغيير أو في تنفيذه يعني من دون شك كبير أن العالم دخل أو على وشك أن يدخل مرحلة تنذر بالفوضى. بعض مكونات هذه الفوضى ليست خافية. نعرف مثلاً أن الصين أدركت منذ سنوات أن روسيا القوة العظمى انحدرت ويتواصل انحدارها. نعرف أيضاً أن الصين أدركت أن الولايات المتحدة انحدرت هي الأخرى ويتواصل انحدارها. نعرف كذلك أن الصين القوة العظمى الصاعدة قفزاً لا تزال بعيدة عن الوصول إلى مبتغاها.

غير خافٍ السباق الآخر، سباق الأقطاب الثلاثة على الهند. وغير خافٍ أن للهند مشروعها الخاص، وغير مستبعد أن يكون لها دور أساسي في صنع الثورة أو الفوضى.. أيهما أقرب.