عزت صافي
مضت السنة الأولى من عهد الرئيس اللبناني ميشال عون على خير، بل على آمال ليست مستحيلة، أولها وأهمها الاستقرار الأمني وثبات الليرة، وما عدا ذلك تفاصيل من عاديات اليوميات في لبنان.
قبل الرئيس الجنرال عون كان الرئيس الأسبق الجنرال فؤاد شهاب يسمي الدستور «الكتاب». وكان يقول لرئيس الحكومة والوزراء: راجعوا الكتاب وطبّقوا النصوص بمعناها الحرفي الصحيح.
وعندما اطلع الرئيس عون على استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة عبر التلفزيون وقرأ النص، تأكد أن الاستقالة لا تصحّ إلا بتقديمها مباشرة من رئيس الحكومة وبحضوره إلى مقرّ الرّئاسة، وبالديباجة التقليدية التي تضع الاستقالة في عهدة الرئيس.
لكن عون لم يكتف بإعلان الاستقالة «غير دستورية». بل رأى أن الأمر أكبر، وربما أخطر من مسألة استقالة حكومة وتأليف حكومة بديلة. ولذلك بادر إلى فتح ديوان الرئاسة أمام لقاءات عاجلة مع رؤساء الجمهورية السابقين، ومع رئيس مجلس النواب، فيما جال وفد وزاري على المراجع الروحية لشرح الحال الراهنة لحال الدولة والبلاد.
تلك المبادرة الرئاسية العاجلة أعطت نتائج إيجابية عاجلة، ويُقال إنها أدّت إلى «ربط نزاع» بين الرئاسة الأولى والرئاسة الثالثة، على أن يكون الرئيس نبيه برّي (الحكَمْ) بصفته رئيس السلطة الثانية، وبما له من خبرة ونجاح في تسوية النزاعات والأزمات السياسية وغير السياسية، وهذا مجرّد تقدير، أو تمنٍ، لأن أزمة الحكم في لبنان تشعبت وتداخلت في أزمة المنطقة بسبب التدخّل الإيراني الفج في الوضع اللبناني المعقد ليزيده تعقيداً.
فما الداعي الذي دعا الدكتور علي أكبر ولايتي مستشار مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية لزيارة رئيس الحكومة سعد الحريري في ديوانه في اليوم الذي سبق استقالة الحكومة ومغادرة الحريري بيروت إلى الرياض؟
كان الداعي للزيارة غير المرحب بها أن يلقي ولايتي في بيروت تصريحاً «صاروخياً» موجّهاً إلى إسرائيل، فيما دولته تملك أكبر عدد من الصواريخ التي يبلغ مداها إسرائيل العدو.
ولطالما تعايش لبنان مع دول الأنظمة الثورية العربية، وقد شاركت أحزاب وفصائل منه في حروب تلك الدول، فيما اكتفى بعض آخر باستعمال السلاح السياسي والإعلامي. وفي الحالتين كان للبنان– الدولة– استراتيجية وقوى نظامية، وكان للبنانيين أكثر من دولة، وأكثر من نظام في العالم العربي، لكنهم بعد تجاربهم المريرة، ورهاناتهم الفاشلة، عادوا إلى حضن الوطن الذي يجمع ويصفح، وقد حدث ذلك بعد توقيع الوثيقة التاريخية التي حملت عنوان «اتفاق الطائف».
وفي حينه لم يفهم كثيرون من اللبنانيين المعنى الصحيح، أو المعنى المقصود، من ذلك الاتفاق الذي عُقد في تلك المدينة السعودية المترامية على ساحل «جبل الشفا» حيث تتشابه الطبيعة مع طبيعة جبال لبنان.
ولم يكن ذلك الاتفاق سوى «وثيقة إنهاء حرب»، وكان على النواب اللبنانيين الذين عقدوا مجلسهم هناك توقيع تلك الوثيقة ليبدأ بعدها البحث في التفاصيل الدستورية والسياسية، وقد وقعوها، وصارت ملزمة بإعادة بناء الدولة اللبنانية على أسس العدالة والحرية والديموقراطية.
لقد مضى زمن طويل كان فيه اللبنانيون يخوضون معركة رئاسة الجمهورية وكأنها معركة كل بيت وكل فرد في العائلة، سواء كانت العائلة سياسية، أو متحزبة لزعيم في المنطقة تنتمي إليه تقليدياً ولا تسأله عن سياسته واتجاهاته، أو مبادئه، أكان مع الحكم أم ضده.
كانت تلك «ديموقراطية» يتميز بها اللبنانيون عن محيطهم وعن العالم الديموقراطي الغربي. فلا هم مع هذا المحيط، ولا هم من ذلك العالم. وكان دستورهم الوطني غير المكتوب «وصفة» بسيطة جاهزة وصالحة لكل الحالات الصعبة ولحل النزاعات التي تبدو مستعصية على الحل، وقد صدّق اللبنانيون «حكماءهم» الذين كانوا يدعون باستمرار إلى المحافظة على الدستور، ويحذرون من محاولات مسه بأدنى تعديل، فكان أن عاشوا عقوداً طويلة قبل الاستقلال، وبعده، في حال من الشكوك والحذر والقلق، حتى انفجرت تلك الحرب (1975) لأسباب داخلية لم تكن بينها محاولة المس بالدستور، أو الخروج عنه.
في ذلك المناخ كانت تدور معركة رئاسة الجمهورية، وكان للنائب اللبناني حجمه، ووزنه، ودوره من خلال موقعه كما يمكن لكل صوت أن يغيّر وجه المعركة ويقلب موازينها والنتائج. بل كانت المراجع العربية والدولية تحسب حساباً لمواقف الكتل النيابية اللبنانية، المعارضة والموالية للحكم. وعلى هذا الواقع كانت تُطلق التوصيفات: هذا نائب أميركي، وذاك نائب فرنسي، والآخر إنكليزي، أو سوفياتي وبالنتيجة كان هناك غالب سياسي، ومغلوب سياسي، وكان الغالب والمغلوب يمضيان في الخلاف، ولا يفترقان، وإذ يستولي الغالب على السلطة لا يشعر المغلوب بالإحباط، بل يتابع خطّه في المعركة ولا يتخلّى عن دوره في المعارضة، أو يتصرّف بما يوحي لأنصاره بالعزلة والوحدة، أو اليأس، بل يزداد قوة واندفاعاً. فالمعارض هو دائماً الأقرب إلى مزاج الناس وعقولها، شرط أن يكون واقعياً وشجاعاً وعادلاً.
تلك كانت سياسة لبنانية، وقد تلاشت، وقلّ عديد أتباعها، بل ذهب المناخ الذي كانت تدور فيه، وذهبت معه معارك النيابة ورئاسة الجمهورية.
وسواء كان افتراضاً، أو افتراءً، القول إن رئيس الجمهورية اللبنانية يأتي بإرادة خارجية، أو إقليمية، أو بصفقة ما، فإن جميع الرؤساء اللبنانيين، منذ بداية عهد الاستقلال حتى اليوم، تعرّضوا لشبهات لم تكن كلها صحيحة، بل إن مفاجآت كانت تحصل في اللحظات الأخيرة من جلسة الانتخاب، وهذا ما حصل في جلسة انتخاب الرئيس سليمان فرنجية عام 1970. يومها فاز فرنجية بغالبية صوت واحد. وإذ تبارى عدد من النواب، كل منهم يدّعي أنه صاحب الصوت الذي رجّح كفّة الرئيس الجديد قال الرئيس الفائز للجميع إن صوته هو الذي ضمن له الفوز، وكان على حق… إنها الديموقراطية التي أعادت إلى مجلس النواب اللبناني ذكرى أول «انقلاب ديموقراطي مدني» حققه الشعب اللبناني في العالم العربي.
ففي عام 1952، وتحديداً يوم 18 أيلول (سبتمبر) من ذلك العام وجّه ثمانية نواب رسالة- وثيقة إلى رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري، بواسطة رئاسة مجلس النواب، هذا نصها:
حضرة رئيس مجلس النواب المحترم
تحية واحتراماً، وبعد…
بناء على إرادة الشعب اللبناني، ونزولاً عند رغبته الصريحة، يتشرّف النواب الموقعون أدناه بأن يطلبوا منكم بوصفكم رئيس السلطة التشريعية التي تمثل سيادة الشعب أن تنقلوا إلى حضرة الشيخ بشارة الخوري هذه الرغبة بوجوب استقالته فوراً من منصب الرئاسة…
الموقعون الأساتذة: كمال جنبلاط– كميل شمعون- بيار إده– أنور الخطيب- ديكران توسباط– عبدالله الحاج– علي بزي- قبولي الذوق…
تلك البرقية لم يأخذها الرئيس بشارة الخوري بالاعتبار، فلم يردّ عليها، ولم يستقل. وكان النواب الثمانية يمثلون كتلة باسم «الجبهة الاشتراكية الوطنية» من أصل 77 نائباً هم مجموع أعضاء المجلس في ذلك الزمن.
ولم يتأخر النواب الثمانية بتوجيه دعوة إلى الشعب اللبناني لإعلان الإضراب السلمي الشامل حتى استقالة رئيس الجمهورية. وقد لبّت العاصمة بيروت الدعوة، وشاركتها المناطق بمعظم أحزابها السياسية والنقابات بمجملها، ودام الإضراب ثلاثة أيام، وقبيل فجر اليوم الرابع كتب الرئيس بشارة الخوري استقالته وقدمها إلى رئيس المجلس آنذاك أحمد الأسعد الذي كان على رأس جمهور النواب المعتصمين تأييداً للرئيس الخوري في مدينة عاليه صيف ذلك العام. وإذ انبلج فجر ذلك اليوم 21 أيلول (سبتمبر) 1952 كان الشعب اللبناني قد سجّل أول انقلاب شعبي سلمي ديموقراطي في تاريخ الدول العربية المستقلة، ولم يتكرر.
وما يدعو إلى الأسف، منذ ذلك الحدث، قبل 65 سنة، أن الديموقراطية اللبنانية الشعبية السلمية المدنية لم تتكرر.
ما يتكرر في هذه الأيام المشهد المتجمد عند استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري الذي تلا كتاب استقالته من مقر إقامته في الرياض عبر التلفزيون. وفي انتظار عودته إلى بيروت لمتابعة مسؤولياته، أو اللجوء إلى تشكيل حكومة جديدة، يعيش اللبنانيون حالة لا مبالاة.
وإذ يلتفت اللبناني حوله في الجوار العربي يطالعه المشهد الكارثي الذي تغوص فيه «سورية العروبة» والنضال والشهامة، وموئل حماة الديار من سرب الأبطال في التاريخ الذي لم تطو صفحته الأخيرة بعد. فما مصير سورية إلا من مصير العراق، وليبيا، واليمن، ولا ننسى فلسطين التي كُتب لها أن تكون الأمثولة التي لم يتعلّم منها سوى جيل الشهداء الموصول بأجيال المعوقين، والمفقودين والأيتام، ومئات آلاف المشرّدين حاملين إلى عالم الغرباء قصائد وداع «بردى» و «دجلة» و «الفرات».
باقية، بعد، بيروت، هذه المدينة «العروس» الصامدة، رافضة أن تستشهد لتُرثى بقصائد شعرائها الأيتام، وقصائد الشعراء العرب الآخرين الذين كانوا يلوذون بساحاتها المشرّعة أمام طلاب الحرية، كما بأنديتها، حيث كانوا يغيبون في غلالة دخانها وعطرها، ثم يغادرونها ليسدّدوا حساباتهم خارجها شعراً، ونثراً، وندوات، ومسيرات.
لقد سبق لبيروت أن احترقت ثم عادت وانتفضت من رمادها، لكنها ليست «طائر الفينيق الأسطوري».