أن تكون طفلًا بلا حماية

1

هنا أبوالغار

الذرية فخر المصريين، الفقراء والأغنياء على السواء. الطفل فى الثقافة المصرية يحمل اسم الأسرة وسيرتها، علمه ونجاحه هما أمل الأسرة، فشله وخطؤه هما عبء عليها. ومن هنا كانت الأسرة المصرية، مهما واجهت من فقر أو تفكك بسبب طلاق أو وفاة، ومهما عانى الطفل أو الطفلة من أسلوب تربية قاسٍ يستخدمه الوالدان، إلا أنه حتى ثلاثة عقود مضت (حين ظهرت العشوائيات وتوسعت وبلعت معها كرامة المصريين وتكوينهم الاجتماعى) كانت «عيبة» كبيرة أن تتخلى أسرة عن أبنائها. فدائما ما كان هناك عم أو خالة أو جدة أو أخ أكبر ينتفض لحل مشكلة طفل يجبر على ترك بيته لأى سبب. أما الآن فهناك عشرات أو مئات الآلاف من الأطفال (الإحصاءات متضاربة لأسباب عديدة)، لكننا جميعا نراهم، سنهم تصغر حتى أصبحنا نرى أطفالا فى الثالثة والرابعة من العمر بمفردهم، والفتيات يقتربن من نصف الأطفال هذا فى مجتمع يرى أن جسد الفتاة هو شرف أسرتها، وكلنا نعلم مخاطر وجود فتاة فى الشارع، كلها علامات لتفاقم الظاهرة.

الأبحاث تبين أن الطفل يترك بيته وأهله ويلجأ إلى الشارع لعدة أسباب، تكون القسوة والعنف المنزلى أهمها، وهى ظواهر تزيد مع الفقر وهنا يجب أن نتذكر أنه ليس كل فقير يلقى بطفله فى الشارع، فى الحقيقة أن الأسر التى تضحى من أجل إبقاء الأطفال معها وتعليمهم وتربيتهم عددها أكبر بكثير من الأسر التى تسمح للفقر بأن يكون حائلا دون احتضانها لأبنائها. لكن العنف أصبح ثقافة متوارثة فى الأسرة المصرية بشكل عام، ففى بحث تم فى عام 2016 على ٣ محافظات تبين أن ٩٢٪ من أطفال المصريين تعرضوا للعنف المنزلى. قسوة المصريين مع أبنائهم نابعة من قناعة بأن العقاب البدنى والنفسى واللفظى جزء أصيل من التربية.

أما بالنسبة للطفلة أو الطفل بلا حماية فإن العنف يمتد إلى كل أوجه حياة أطفالنا، فالقسوة المفرطة (البدنية والنفسية) يتعرض لها ليس فقط فى البيت، وإنما فى عمله فى خدمة أسر وأطفال أكثر حظا منها، أو فى الورشة إذا ما كان يعمل بها، وفى قسم البوليس إذا أصبح الشارع مأواه حيث يتم القبض عليه مرات ومرات ويتم التحقيق معه بغلظة وبعنف ثم يحبس مع البالغين الذين قد يكملوا مسلسل الرعب، وفى حال إيداعه دور أحداث، فإن المعاملة التى يلقاها الطفل فى كثير من الأحيان لا تقل عنفا وفظاظة، وهو ما يجعله يهرب من كل هذه الأماكن (البيت، المدرسة، الورشة…) إلى الشارع.

***

صحيح أن الشارع به الكثير من العنف والجوع والبرد والإهانة، لكن الشارع به أيضا إيجابيات. دعونا ننظر إلى الشارع من منظور الطفل.. فى دراسة تمت عن فتيات الشارع ونشرت فى عام ٢٠٠٩ تبين أن فى أكثر من خمسين فى المئة من الحالات يكون أول من تلتقى بها الفتاة هى طفلة شارع أخرى، والصداقة وعلاقة الترابط بين هؤلاء الأطفال قوية، وسرعان ما يتعرف الطفل ــ أو الطفلة ــ على مجموعة تحميه ويعيش فى كنفها فى مقابل أن يطيع قائدها، صحيح أنه قد يلقى قسوة من زملائه وزميلاته، لكنه يلقى أيضا العلاقة الإنسانية التى لم تتوافر فى بيته أو فى مؤسسته.

وفى الشارع هناك «النداهة» والتى يصعب مقاومتها وهى الحرية الكاملة غير المقيدة بالأصول، والعرف، والدين وغيرها من الأمور التى تحجم رغباتنا نحن المحظوظين بالتربية السوية فى أسرنا، وهى الحرية التى تصبح نوعا من الإدمان يحتاج إلى علاج نفسى واجتماعى صعب وطويل ومثل أى إدمان فالردة فيه إلى الشارع واردة. وطفل الشارع لا يضطر إلى الارتباط بمواعيد نوم أو استيقاظ (فالليل قد يكون أكثر صخبا وأحداثا، كما قد يكون أكثر خطرا ويحتاج إلى اليقظة، وطفل الشارع لا يرتبط بمكان، فما أجمل أن تصحو يوما لتقرر أن تفطر فى الإسكندرية (فهم يتسللون إلى القطار أو على سقفه)، ثم تقضى مساءك فى إحدى حدائق مصر الجديدة، تأكل ما تشاء وقتما تشاء (صحيح أن الإمكانيات المادية قد لا تسمح دائما، لكن الشارع به مصادر تمويل من تسول وبيع منتجات صغيرة أو النشل….)، مثل هذه الحياة غير المقيدة تغير من التكوين النفسى للطفل الطبيعى الذى يرتاح إلى وجود نظام ما فى حياته، ويفقده قدراته الاجتماعية فى التعامل مع الحياة اليومية ومع الأشخاص وهو ما يكتسبه أبنائنا من التعامل مع البالغين القائمين عليهم.

هذه الحرية ثمنها غال، فالبرد فى الشارع ليس بسبب الجو، إنما هو بسبب الخوف وعدم الأمان، طفل الشارع فتاة أو فتى معرض للاعتداء البدنى، ويمكن أن تختطف الفتاة لأيام وأسابيع وشهور يتم فيها الاعتداء عليها جنسيا مرات ومرات (ما يسمى بلغة الشارع التخزين) ولا يوجد من يفتقد وجودها أو يبحث عنها حتى، والغدر لا يأتى فقط من الزملاء فى الشارع، الغدر قد يأتى من المجتمع كله الذى يحملهم مسئولية قدرهم.

هذا الألم النفسى والبدنى، يحتاج إلى مخدر لمواجهته وهو ما يجعل شم الكلة وتعاطى الحبوب المخدرة أمرا منتشرا بين أبنائنا فى الشارع إلا أنها لا تشكل سوى طريقة لتحمل الألم ويكون من السهل عليهم الاستغناء عنها عند تأهيلهم وهو ما لا يجعل منها عقبة حقيقية للتأهيل بالمقارنة مع عقبة التغلب على إدمان حياة الشارع نفسها «النداهة».

***

من آن لآخر تنفجر قضية إعلامية تخص هؤلاء الأطفال فتطرح أسئلة كثيرة منها حول أسبابها وطرق حلها، ومعظمها تساؤلات تنبع من خوفنا فى الأساس على أنفسنا وعلى أبنائنا، معظم الحلول تتناول التعامل مع الطفل بعد وصوله إلى الشارع، وهى قضية مهمة بالطبع تحاول بعض المؤسسات والجمعيات بالتعاون مع وزارة التضامن الاجتماعى حلها، عن طريق وحدات متنقلة تصل للأطفال، ومراكز استقبال نهارية تخدمهم وتعيدهم إلى ذويهم إذا كان هذا ممكنا، ومراكز إقامة تؤويهم وتؤهلهم نفسيا واجتماعيا وتنجح فى ذلك بنسب عالية إذا ما توافرت المنهجية السليمة. أما الحل الحقيقى فهو التنمية، أن يتم تنمية المجتمعات التى تفرز هؤلاء الأطفال وأهمها الثمانية مليون مصرى الذين يعيشون فى العشوائيات، وأن يفعل الدستور والقانون، وأن يتحمل المجتمع مسئولية حماية الطفل المصرى حتى من أقرب الناس له إذا لزم الأمر، فكل مصرى يجب أن يوضع أمام مسئولية انجابه لطفل، وعلى الأبوين فى المقام الأول العمل على توفير الأمن والحماية والتعليم لأبنائهم، وعلى الدولة أن تتيح هذه الحقوق بما يتماشى مع الدستور المصرى.

«نفسى الناس تشوفنى» هذه إجابة أطفالنا فى الشارع عندما نسألهم عما يتمنونه، فقبل أن يذكروا احتياجاتهم الأساسية يحلمون بألا ندير وجهنا لهم عندما نراهم فى إشارات المرور والشوارع، ألا ننكر وجودهم، فإن لم يكن بيدنا إلا أن ننظر فى أعينهم ونبتسم فهو أقل القليل الذى نقدمه لأطفال لا يقلون جمالا وموهبة وشقاوة ورقة عن أبنائنا.
أَحِبُّوا أطفالنا، كل أطفالنا…

التعليقات معطلة.