العراق.. عام على الشلل السياسي
إياد العنبر09 أكتوبر 2022
بين رفض وطعن بنتائجها، وصراع على شكل الحكومة القادمة، بين مَن يريدها أن تتشكّل على أساس حكومة أغلبية، وآخر يريدها أن تبقى توافقية، وبين تبدّل في موازين القوى داخل البرلمان، مضى عامٌ كاملٌ بالتمام والكمال على انتخابات 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وإلى الآن لم تتشكّل الحكومة!
لا يوجد تعبيرٌ يمكن أن يصف الشلل السياسي الذي استمرّ سنة كاملة، أفضل من الذي قدّمته ممثلة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) في إحاطتها الأخيرة أمام مجلس الأمن عن الوضع في العراق، حيث قالت: “خلال الأشهر الاثني عشر الماضية كان لِلشقاق ولعبة النفوذ السياسي الأولوية على حساب الشعور بالواجب المشترك. وقد تركت الأطراف الفاعلة على امتداد الطيف السياسي البلدَ في مأزق طويل الأمد. وكان العراقيون رهينة لوضع لا يمكن التنبؤ به ولا يمكن احتماله، ليتحول إلى اشتباكات مسلّحة… لا يكن لديكم أدنى شك بأنَّ خيبة أمل الشعب قد وصلت إلى عنان السماء. لقد فقد العديد من العراقيين الثقة في قدرة الطبقة السياسية في العراق على العمل لِصالح البلد وشعبه. ولن يؤدي استمرار الإخفاق في معالجة فقدان الثقة هذا سوى إلى تفاقم مشاكل العراق”.
يفترض بالانتخابات أن تكون آلية لِلتداول السلمي لِلسلطة في نظام يحمل عنوان “ديمقراطي”، إلا أنها في العراق تعمل بطريقة عكسية، إذ بدلاً مِن أن يعمل التقادم في ممارستها على إنضاج تجربة التحول نحو النظام الديمقراطي، إلا أنها باتت تدخلنا في انسدادات دورية، وتوفر مسرحاً لصراعات الطبقة السياسية، وشعارات تماهي المصلحةَ العامة ترفعها القوى السلطوية، ولكنها في الحقيقة تعبّر عن مصالح الأحزاب وأعضائها وعن نرجسية قادتها.
الغاية الرئيسة من الانتخابات هي أن تكون وسيلةً يتمّ من خلالها قياس الرضا والقبول الشعبيَين عن القوى والأحزاب السياسية والحكومات، وأن يكون تصارع الفرقاء السياسيين على تشكيل الحكومة في ضوء نتائج الانتخابات بما يعبّر عن أفق سياسي يدرك تغيير في مزاج الناخبين، وأن يتم تجاوز الأخطاء وأخذ العبرة من التحول في موازين المقاعد داخل البرلمان. لكنّ انتخابات تشرين الأول 2021 عبّرت عن اتجاهَين متصارعَين على تشكيل الحكومة، الأول يريد الاستئثار بتشكيل الحكومة ويسيطر من خلالها على كل مفاصل الدولة كخطوةٍ أولى، ومن ثمَّ العمل على تصفية خصومه السياسيين. أمّا الاتجاه الآخر، فكان يستشعر الخطرَ من خسارة مقاعده البرلمانية، فتوجّه نحو تشكيل تحالف يضمّ فرقاء سياسيين لا يجمعهم شيء سوى الشعور بخطورة إقصائهم من تشكيل الحكومة الجديدة، ومن ثمّ خسارة نفوذهم السياسي.
في الآونة الأخيرة، باتت تتعالى الأصوات المطالِبة بإعادة الانتخابات، وكانت تلك مطالب قوى الإطار التنسيقي من اليوم الأول لإعلان نتائج انتخابات 2021. أو حلّ البرلمان والذهاب نحو انتخابات مبكّرة، الذي أصبح من مطالب التيّار الصدري بعد استقالة نوّابه من البرلمان. ويبدو أنَّ الانتخابات وسيلة القوى السياسية لِتعطيل الاستحقاقات السياسية التي يطالب بها الجمهور، كتعديل الدستور وتشكيل حكومة تتحمّل مسؤوليتها الأحزاب والقوى السياسية التي تشكّلها وتتقاسم وزاراتها والمناصب العليا فيها!
حتّى حكومة الكاظمي، التي لم تكل ولم تمل يوماً من تكرار التأكيد على أن مهمتها الرئيسة في الإعداد لِلانتخابات المبكّرة التي جرت في تشرين الأول من العام الماضي، أمست الآن تسعى إلى تجديد الثقة بها، وتنهي وصفها باعتبارها (حكومة تصريف الأعمال اليومية)! وتراهن على تمديد بقائها حتّى إجراء انتخابات جديدة! وبالنتيجة ترهن ديمومة بقائها على أساس الدوران في دوامة إدارة المرحلة الانتقالية، وتكون غير خاضعة لِلمساءلة والمحاسبة، ما دامت مهمتها إجراء انتخابات بعد انتخابات إلى ما لا نهاية.
انتخابات تولد أزمةً، ولا تفرز حكومةً جديدة، ولا تغيّر في موازين المعادلة السياسية وفقاً لنتائج انتخابات، يفترض أنّها عبرت عن تغيير في مقاعد البرلمان، لكنّ القوى السلطوية ترفض الإصغاء لأصوات أغلبية الجمهور المقاطع للانتخابات، وتريد العودة إلى التوافقات بين الزعامات السياسية على مَن يكون رئيساً لِلوزراء، وعلى ضمان حصصها من موارد الدولة.
إنَّ تعطيل الاستحقاقات السياسية المترتبة على نتائج الانتخابات بعد مضيّ عام مِن إجرائها تكمن خطورته في إدامة هشاشة النظام الديمقراطي. فالممارسات الديمقراطية تشترط، كما حدد ذلك عالم السياسية الأميركي سيمون مارتن ليبست، ثلاثة شروط رئيسة:
أولها، أن يضمّ النظام السياسي مجموعةً من القيم تسمح بالتنافس السلمي مِن أجل الوصول إلى السلطة. وثانيها، إذا لم يؤدّ نتاج النشاط السياسي إلى منح السلطة إلى مجموعة ما، في فترات محددة، فيتنج عن ذلك وجود حكومة غير مسؤولة وغير مستقرّة. وأخيراً، ستزداد سلطة المسؤولين السياسيين باطراد، ويتضاءل نفوذ الشعب، إذا لم تتوفر شروط وجود المعارضة المستمرة والفاعلة.
إذاً، يبدو أنَّ قوى السلطة تعمل على إفراغ الانتخابات من مضمونها، والتحايل على غاياتها في التعبير عن إرادة الجمهور السياسي. ولا تعطي أولوية لِلتوقيتات الدستورية، ولا لِلزمن المتبقي مِن الدورة الانتخابية، ولا تكترث حتّى بمساءلة الجمهور الذي لم تحقق له حتّى القليل من متطلبات حياته اليومية البسيطة، ولا تتخوّف مِن يأسه وتبرّمه من هذه العملية السياسية التي لم تنتج غير الفوضى والخراب والفساد.