جمعة بوكليب
الحربُ الأوكرانية – الروسية تقتربُ مسرعة من الشهر العاشر. ولم يبدُ في الأفق بعدُ ما ينبئ بقرب النهاية، أو يشي بإمكانية حدوث هدنة وقف إطلاق نار قصيرة بين الطرفين، ربما تسمح بإتاحة فرصة أمام السلام للبروز، وإخراس أصوات المدافع بصفة دائمة. للأسف، فإن كل ما يصل إلينا من أخبار، من جبهات المعارك، ليس باعثاً على التفاؤل والأمل. أغلب أحياء العاصمة الأوكرانية حالياً تكتنفها العتمة وانقطاع المياه، بعد تدمير القوات الروسية لأغلب محطات توليد الكهرباء، رداً على استعادة القوات الأوكرانية لمدينة خيرسون. أخطار الموت برداً تحيق بالسكان المدنيين. وليس أمامهم سوى الاختيار بين أمرين أحلاهما مُرّ: البقاء في المدينة واحتمال الموت برداً، أو مغادرة منازلهم ومدينتهم، والفرار إلى البلدان المجاورة. الخروج الأول كان فراراً من الموت بعد بدء الحرب في شهر فبراير (شباط) الماضي. أغلب الفارين رجعوا إلى مدينتهم، لكنهم الآن مجبرون على الخروج ثانيةً منها، هرباً إلى ملجأ دافئ وآمن.
المعلقون العسكريون، في وسائل الإعلام، يؤكدون أن هذا التحول الأخير، في التكتيك الحربي الروسي، بتدمير محطات توليد الكهرباء، يهدف إلى تحويل برد الشتاء إلى سلاح، وبغرض إجبار حكومة كييف على قبول التفاوض، إلا أن حكومة كييف لا ترغب حتى الآن في تنكُّب تلك الطريق. ولا ندري إن كانت ثلوج الشتاء والمعاناة التي تسببها في غياب التيار الكهربائي، ستضطرها إلى إعادة التفكير في الأمر.
حدثان لافتان للاهتمام شهدهما الأسبوع المنقضي، وظهرا معاً في وسائل الإعلام العالمية. الحدث الأول مصدره العاصمة الإيطالية روما، وتحديداً المقر البابوي في الفاتيكان. والثاني مصدره الخليج العربي، وتحديداً العاصمة الإماراتية أبوظبي. الأول منهما رسالة مفتوحة موجهة من البابا في الفاتيكان يطالب فيها أوكرانيا بضرورة تقديم تنازلات لوضع نهاية للحرب، والتمهيد لعودة السلام. في رسالته المفتوحة، دعا البابا الطرفين إلى وقف إطلاق النار، ومتمنياً على الله أن يُسرّع بنهاية الحرب. ولم ينسَ كذلك في رسالته الإشادة بالمقاومة التي أبداها الأوكرانيون في الدفاع عن بلادهم، إلا أنه طالب قادتهم بالإعداد للسلام. رسالة البابا نشرها الفاتيكان يوم الجمعة الماضية، لكن من متابعة تطورات الحرب، منذ بدايتها وما تخللها من تطورات، لا يبدو أن الدعوة البابوية ستجد آذاناً مصغية في دوائر صنع القرار في كييف.
القادة الأوكرانيون رفضوا في السابق كل الدعوات المطالبة باللجوء إلى التفاوض. وهذه الدعوة الأخيرة، القادمة من الفاتيكان، لن يكون مصيرها أفضل من سابقاتها. الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أعلن مراراً أن أي مفاوضات سلام مع موسكو لن تحدث قبل انسحاب القوات الروسية من كل الأراضي التي احتلتها، بما في ذلك تلك المحتلة منذ عام 2014. الأوكرانيون، في ردودهم على الدعوات التي تصل إليهم من أوروبا مطالبة بالجنوح إلى التفاوض بهدف تحقيق سلام، يقولون إن الوصول إلى السلام لا يكون بالتفاوض مع الرئيس الروسي بوتين، بل بمساعدة أوكرانيا على النصر في الحرب.
الحدث الثاني يتمثل في خبر نشرته صحيفة «الديلي تلغراف» اللندنية، نقلاً عن وكالة «رويترز»، ويتعلق بمفاوضات جرت في أبوظبي، وراء أبواب مغلقة، وبوساطة إماراتية، عُقدت يوم 17 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بين مسؤولين روس وأوكرانيين. هدف المفاوضات، كما ورد في الخبر، الوصول إلى اتفاق بشأن تبادل أسرى الحرب من الطرفين. الجانب الأوكراني يشترط لموافقته موافقة موسكو على إعادة فتح أنابيب تصدير مادة «الأمونيا» النفطية اللازمة لصناعة الأسمدة. ولم يصدر من العاصمتين، الأوكرانية والروسية، تعليق حول الخبر.
ما يثير الاهتمام في خبر التفاوض أن الوساطة جاءت من منطقة تعدّ جغرافياً بعيدة عن ميادين المعارك، وهي منطقة الشرق الأوسط، وبمبادرة من دولة عربية، تقف على الحياد. وهذه ليست مفاجأة؛ لأنّها ليست المرّة الأولى. في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، بادرت الرياض بوساطة نجحت في عقد اتفاق بين الطرفين الروسي والأوكراني، كان سبباً في أكبر عملية لتبادل الأسرى بين البلدين المتحاربين، منذ بدء الاجتياح الروسي.
هذه المرّة، جاءت المبادرة من أبوظبي. ومن المتوقع لها أن تؤتي ثمارها، خاصة أن قبول حكومة كييف للتفاوض جاء بضغوط من واشنطن. فهل يكون نجاح الوساطتين العربيتين المتعلقتين بتبادل الأسرى، تمهيداً لمبادرة عربية أخرى للتوسط بين البلدين لوقف الحرب وتحقيق سلام دائم؟