عثمان ميرغني
ليس هناك من إنسان سويّ يتمنى الحرب، وما يجري في السودان اليوم ليس استثناء. فمظاهر الاقتتال والدمار، ومناظر النازحين واللاجئين التي هزتنا في عدد من عواصم منطقتنا وغيرها، تطل علينا اليوم من الخرطوم التي كانت وادعة بطبيعتها، قبل أن تصيبها حمم معارك السلطة وصراعات الكراسي والمصالح.
الآن وقد أصبحت الحرب واقعاً مؤلماً معاشاً ودخلت يومها الثاني عشر، يكون السؤال؛ ما الحل، وكيف، ومتى، وبأي صيغة يتحقق وقفها؟
تتكرر الدعوات لوقف القتال والدخول في هدنة أطول بعد 4 هدنات هشة لم تصمد طويلاً، وذلك لتهيئة الأجواء للجلوس إلى طاولة المفاوضات والتوصل إلى اتفاق ينهي الأزمة. في الجانب المقابل، أعلنت وزارة الخارجية السودانية، وقيادة الجيش، أن الأزمة «شأن داخلي»، ويتم التعامل معها باعتبارها تمرداً من قيادة الدعم السريع على قيادة القوات المسلحة.
الواضح أن قيادة الجيش تبدو واثقة بقدرتها على حسم المعركة لصالحها، بل باتت تبشر بأنها بدأت المرحلة الأخيرة من عملياتها، وهناك مؤشرات بالفعل على أن القتال انحسر وبات متركزاً في رقع جغرافية محدودة، والقلق الأكبر بات من مظاهر الانفلات الأمني وعمليات النهب الواسعة، في ظل غياب قوات الشرطة عن الشوارع.
الحقيقة أن أي محاولة لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه بين الجيش والدعم السريع قبل بدء الاقتتال تبدو شبه مستحيلة، بعد معارك سال فيها كثير من الدماء، وأحدثت دماراً واسعاً في مؤسسات الدولة وممتلكات المواطنين، وقوضت أي ثقة بين قيادة الجيش ممثلة في الفريق عبد الفتاح البرهان ومن حوله، وبين قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) وشقيقه عبد الرحيم في الجانب المقابل. ومحاولة ترقيع هذه العلاقة لن تقود إلى حل حقيقي ودائم، بل ستكون وبالاً على السودان، ووصفة لعودة القتال مستقبلاً بشكل أشرس.
المبعوث الأميركي السابق للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان، الذي تعاطى طويلاً مع ملف السودان، كان له موقف لافت، عبّر عنه في مقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست» في 18 أبريل (نيسان) الحالي، أي بعد 3 أيام على اندلاع القتال، قال فيه: «إن أكبر ضرر يمكن أن يلحق بالشعب السوداني، وبسلامة السودان كدولة ذات سيادة، وبأمن جيران السودان، والسلم والأمن الدوليين، هو السماح بحل وسط بين المتحاربين، معتمد دولياً مرة أخرى، يقوم على تقاسم السلطة. يجب أن يكون واضحاً الآن على الأقل أن البرهان وحميدتي ليسا إصلاحيين، ولن يكونا إصلاحيين أبداً».
كذلك علّق على حرب الخرطوم تيبور ناجي، مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق للشؤون الأفريقية، في تغريدة، يوم السبت الماضي، قائلاً: «حميدتي وقواته الدعم السريع هم في الأساس جنجويد بالزي العسكري… ذات الأشخاص المسؤولين عن الإبادة الجماعية في دارفور. أي شخص يعتقد أن حميدتي يقاتل من أجل الديمقراطية والحكم المدني هو ساذج… إنه يقاتل من أجل نفسه ومناجمه للذهب ولكي يحكم. المسألة ليست معقدة».
من المضحكات المبكيات في ظل هذا الوضع البائس، ذلك البيان الصادر عن «الدعم السريع» قبل يومين، الذي يقول: «إن ثورة جديدة بدأت الآن بقيادته استكمالاً لثورة ديسمبر (كانون الأول) المجيدة».
فقوات الدعم السريع هي التي شاركت في قمع انتفاضات الشعب ضد نظام عمر البشير، وقامت بدور كبير في جريمة فض الاعتصام في الخرطوم في ذروة أحداث الثورة في 2019. ووجهت لها أصابع الاتهام في جرائم القتل والسحل التي وقعت هناك. وهي التي شاركت قيادتها في الانقلاب على الحكومة المدنية في أكتوبر (تشرين الأول) 2021.
وبعد كل ذلك، تأتي اليوم لتدعي أنها تقود ثورة جديدة لاستكمال ثورة الشباب، ولبناء نظام مدني ديمقراطي!
الشعب السوداني الذي قام بثورة سلمية أطاحت نظام البشير والإسلاميين، لم يطلب من «الدعم السريع» وقيادتها إشعال حرب تحرق الدولة، ولا تخدعه هذه الشعارات، فهو الذي هتف منذ البداية «الجيش للثكنات… والجنجويد ينحل».
محاولة استخدام حميدتي كورقة ضغط على المكون العسكري، وبأنه يمكن أن يحقق لهم الانتقال المدني الديمقراطي، هذا من الوهم، فالرجل إضافة إلى عدم وجود أي مؤهلات ديمقراطية تزكيه للقيام بهذا الدور، كان من ناحيته يحاول استخدام القوى المدنية، واستغلال شعارات الانتقال الديمقراطي من أجل مصالحه، وتحقيق طموحاته في الحكم، وحماية نفوذه القائم كلياً على قواته وكسب ثروات البلاد. ومن هذا المنطلق، لم يكن يريد دمج قواته في القوات المسلحة، لأن ذلك سيعني نهاية نفوذه، بل كان يناور ويماطل، بل يسعى لتفكيك الجيش من خلال إصلاح القوات المسلحة، بعد ما أصابها من تسييس من تبعات 30 سنة من حكم الإسلامويين.
قيادة الدعم السريع خُيل لها أنها ستسيطر على العاصمة سريعاً وتقضي على البرهان وقيادة الجيش بضربة خاطفة، ومقاطع فيديوهاتهم التي بثوها في أول أيام المعارك وتصريحاتهم تثبت ذلك. لذلك نفذوا هجومهم المباغت بفكر الانقلابات التقليدية، أي السيطرة على القيادة العامة للقوات المسلحة ومراكز القوات والقيادات الرئيسية، والسيطرة على المطارات، وعلى مقر الإذاعة والتلفزيون.
تحركاتهم المنسقة لم تكن تحركات قوات بوغتت بالهجوم على مواقعها، بل كان واضحاً أن الجيش هو الذي بوغت وتلقى الضربة الأولى، قبل أن يستعيد توازنه بعد أيام من المعارك الطاحنة، ثم يتجه إلى الهجوم المضاد الذي دمر فيه كل معسكرات ومراكز القيادة والتموين والاتصالات التابعة لـ«الدعم السريع».
الدرس المهم أنه لا يمكن السماح بعد اليوم بوجود أي سلاح خارج سيطرة الدولة، ولا بوجود قوات خارج منظومة القوات المسلحة. وبعد هذه التجربة، من الحكمة أن يتعلم السودانيون أنه لا بد من عدم إقحام الجيش في مستنقع السياسة، وهذا يتطلب أن يدرك القادة العسكريون أن لعبة السياسة تضعف قدراتهم في نهاية المطاف، وتحولهم من جيش مهني نظامي إلى أداة في لوحة الشطرنج السياسي.
في الوقت ذاته، يتطلب الأمر أن يبتعد السياسيون عن محاولات جر الجيش إلى ملعب السياسة واستخدامه في صراعاتهم وخلافاتهم، ومن مظاهر هذه الخلافات اليوم الجدل العقيم الدائر حول ما إذا كان ما يحدث هو بتدبير من بقايا النظام السابق، بالتنسيق مع عناصرهم داخل الجيش.
النظام السابق لفظه الشعب السوداني وثار ضده بعد 30 عاماً من حكم دمر البلد وتسبب في انقسامه وفصل الجنوب، وصنع ظاهرة «الدعم السريع». هذا الشعب لن يقبل بأي عودة لفلول ذلك النظام وسيقاومها، لكن المهم الآن هو تأجيل هذه المعارك في الوقت الذي يتعرض البلد إلى أكبر تهديد في تاريخه الحديث.
إذا كُسر الجيش في هذه المعركة فستفقد الدولة ركناً أساسياً من مقومات حفظ أمنها وسيادتها، وسيصبح السودان فريسة للميليشيات، ومرتعاً لحركات الإرهاب الباحثة دوماً عن بيئة الفوضى والحروب الأهلية، وصيداً سهلاً للطامعين في خيراته وثرواته.
قال حميدتي، متوعداً الناس ذات يوم، إن الحرب لو اشتعلت فإن «عمارات الخرطوم لن تسكنها إلا الكدايس (القطط)».
إن أفضل سيناريو، في تقديري، هو أن تدحر قوات الدعم السريع، ويكون ذلك بداية لإنهاء ظاهرة الجيوش الرديفة والتفلتات الأمنية، التي عانت منها دول أخرى طويلاً. أي حل آخر يعيد إنتاج الوضع المختل السابق، أو يفرض هدنة وحلولاً هشة، لن يكون سوى وصفة لحرب أو حروب أخرى تتجدد في المستقبل، وتكون أكثر دماراً، وأكبر خطراً على السودان، وعلى الأمن الإقليمي. هذا الأمر يراه كثيرون خارج السودان، ويفشل بعض أبنائه في استيعاب خطورته على مستقبل البلد، الذي هدته مماحكات السياسة، وصراعات النخب، وجدالاتها البيزنطية.