برلين القرن الـ21 ستتخذ مواقف قيادية متنامية وتتحمل مسؤوليات متزايدة لتأمين أوروبا سياسياً واقتصادياً
نبيل فهمي وزير الخارجية المصري السابق
قررت ألمانيا أخيراً تزويد أوكرانيا بعدد من الدبابات طراز “ليوبارد” بعد تردد شديد ونقاش طويل ومفاوضات متشعبة (رويترز)
في المقالة الأولى من هذه السلسلة عن ألمانيا واليابان استعرضت بعض التغيير في السياسات باعتبار أن البلدين كانا ضمن الخاسرين في الحرب العالمية الثانية لمصلحة قطبي النظام الجديد حينذاك الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة التي وضعت قيوداً مباشرة وضوابط على نشاطهما العسكري والسياسي.
الآن نجد الأقطاب السابقة تتصارع وتتصادم مرة أخرى، ويعود عالمنا لتوجه استقطابي بعد أن تحول النظام الدولي من نظام القطبين إلى القطب الأوحد الغربي ثم النظام المتعدد الأطراف، ومع هذه التغيرات نشهد خروج اليابان وألمانيا من شرنقتما الأمنية والسياسية تدريجاً، وبدأ اعتمادهما بدرجات متزايدة على أنفسهما، بما في ذلك اتخاذ قرارات أحادية من دون الحلفاء، وهي تغيرات جوهرية من شأنها أن تنعكس على شكل ومضمون النظام الدولي في القرن الـ21.
قررت ألمانيا أخيراً تزويد أوكرانيا بعدد من الدبابات طراز “ليوبارد” بعد تردد شديد ونقاش طويل ومفاوضات متشعبة انتهت إلى توفيرها مباشرة، بالتوازي مع تزويد الولايات المتحدة أوكرانيا بدبابات من طراز “أبرامز”، مما عكس تحولاً في مواقف البلدين اللذين أيدا أوكرانيا وإن كانا حذرين في توفير أسلحة تغير كثيراً وسريعاً من ميزان القوى في النزاع، على أمل ضبط إيقاع التصعيد العسكري والسياسي روسياً.
وتوفر مقالة كتبها المستشار الألماني أولاف شولتز الذي تولى السلطة بعد انتهاء الولاية الطويلة لأنغيلا ميركل، أفضل أساس وشرح للمنهجية الألمانية المستجدة والمتطورة في المجالين الأمني والعسكري وكذلك السياسي والتي تدخل في إطارها تلك الخطوة بتوفير الدبابات لأوكرانيا مباشرة.
وبادئ ذي بدء من الملاحظ أن ألمانيا تبرر نظرتها الأمنية المستحدثة بأن العالم يشهد الآن تغيراً تكوينياً جوهرياً تتنافس فيه أطراف عدة على النفوذ والقوة، وتتحمل ألمانيا إزاءه مسؤوليات خاصة باعتبارها الضامن لأمن أوروبا، وحلقة الوصل والتوافق داخل الاتحاد الأوروبي، والمرج الرئيس للحلول المتعددة الأطراف للمشكلات العالمية.
ولكي تقوم ألمانيا بهذا الدور أعلن شولتز أنها تستثمر في قواتها المسلحة وتدعم الصناعات الأوروبية العسكرية وتزيد من مشاركتها ووجودها في إطار حلف شمال الأطسي، مع تدريب وتسليح القوات المسلحة الأوكرانية، وتحقيقاً لكل ذلك، مثلها مثل اليابان، ستطور وتبني ثقافة إستراتيجية جديدة تأخذ في الاعتبار الأخطار المستجدة في أوروبا، تحديداً من جانب روسيا.
كما أعلن شولتز أن ألمانيا وأوروبا ستلعبان دوراً نشطاً وفاعلاً، مشيراً إلى تخصيص 100 مليار دولار أميركي لدعم كفاءة القوات المسلحة الأميركية، وهي خطوة استلزمت تعديل الدستور الألماني، في أعمق تعديل دستوري منذ عام 1955.
وأكد شولتز أن القوات المسلحة الألمانية ستتطور لتستطيع تأمين الدولة الألمانية وحلفائها، وهي نظرة جديدة من المجتمع الألماني لمسؤولياته، وخطوة وتوجه شبيهان بمواقف اليابان أخيراً، وشملت هذه التغيرات في المنظور والممارسات الألمانية قيامها للمرة الأولى بتسليم أسلحة إلى ساحة نزاع عسكري حي، بعد أن رفضت القيام بذلك طويلاً في الماضي.
والأحداث والتغيرات الأخيرة تجاوزت المجال العسكري وشملت المنظور الدولي، بحيث لم تعد برلين تعتبر أوروبا قارة سلام وروسيا شريكاً محتملاً، وخلصت إلى أن من الضروري أن تتحمل أوروبا تأمين نفسها بدرجات متزايدة، وهو ما يتطلب تدعيم القوات المسلحة للدول الأوروبية ورفع كفاءة التنسيق في ما بينها، فقررت واتخذت إجراءات لتخفيف اعتمادها على الغاز الروسي وسرعت من معدلات تحولها إلى الطاقة النظيفة بعد مرحلة انتقالية تستخدم فيها لمدة أطول الطاقة النووية والفحم، ولكل ذلك انعكاسات طويلة الأجل، إستراتيجية واقتصادية وبيئية، بل امتد ذلك حتى إلى مؤسسة الاتحاد الأوروبي وسبل عملها، بما في ذلك استبدال اتخاذ القرارات بالإجماع وتبني نظام الغالبية في مجال الشؤون الخارجية ضمن أمور أخرى.
وفي سياق استعراض المنظور الألماني الجديد تناول شولتز أيضاً تنامي قوة الصين ونفوذها كطرف فاعل ومؤثر في الساحة الدولية يجب أن يلتزم قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وكذلك القواعد الرئيسة لاقتصاد السوق، بخاصة الشفافية والتنافسية بين المؤسسات الاقتصادية، كما أقر بضرورة ونية ألمانيا التعامل ببراغماتية مع دول العالم، بما في ذلك التي لديها رؤى مختلفة.
يعكس كل ذلك أن ألمانيا القرن الـ21 ستتخذ مواقف قيادية متنامية، بخاصة داخل أوروبا، وستتحمل مسؤوليات متزايدة لتأمين أوروبا بكل ما يتطلبه ذلك سياسياً واقتصادياً، بناء على قراءة مستحدثة ومقلقة للأوضاع الدولية، كما ستشجع أوروبا أيضاً على تنشيط دورها في المجال العسكري.
وأرى من متابعة ألمانيا كثيراً مما رأيته لدى متابعة القراءة اليابانية للتطورات الدولية في العقد الأخير، على رغم اختلاف الساحة السياسية المباشرة، فإحداهما في آسيا والأخرى في أوروبا، وأعتقد بأن الحسابات الأميركية في العقدين الماضيين التي تميل نحو الانكماش والتحفظ في تأمين الأصدقاء، جعلت كلتيهما تؤمنان بضرورة تحمل مزيد من المسؤولية الأمنية والسياسية ذاتياً، مع هذا هناك أيضاً عدد من الاختلافات بينهما، منها أن ألمانيا تستطيع الاعتماد على بعض الدعم الأوروبي في دورها الجديد، وهو ما ليس متوافراً لدى اليابان، كما ألاحظ أن إشارات ألمانيا إلى التعددية المرجوة في العلاقات الدولية تتجاوز كثيراً إشارات اليابان.
من المتوقع استمرار الوضع المتميز للولايات المتحدة في الساحة الدولية لعقود ممتدة، وتنامي وضع الصين وشغلها منطقة كبيرة من الساحة التي فقدها الاتحاد السوفياتي السابق، وهناك دول ومراكز نفوذ وقوة متنامية ستظهر على الساحة الدولية لكل منها حساباتها وعلى رأسها اليابان وألمانيا، وهو دور تأخر كثيراً في ضوء قدراتهما الاقتصادية الضخمة، والتأخر ناتج فقط من القيود التي كانت موضوعة على الدولتين منذ الحرب العالمية الثانية، وعلى المجتمع الدولي، بخاصة الدول الكبرى أخذ ذلك في الاعتبار وتمكينهما من القيام بدور أكثر نشاطاً طالما ظل في إطار القانون الدولي والتوافق بين مصالح الدول.
وفي ضوء ذلك وفي إطار نظام متعدد الأطراف، على ألمانيا واليابان وغيرهما تحمل مسؤوليات سياسية متزايدة تتطلب الحكمة قبل القوة في التعامل مع الأمور، والشجاعة للحديث والمواجهة الصريحة للصديق والعدو على السواء، والعمل لبناء نظام دولي أكثر عدالة واستجابة لحاجات الكل، تأميناً لتعاونهما في استغلال فرص التقدم والتصدي للتحديات والأخطار الجمة التي تواجه العالم.