المصدر: النهار العربي
هل لدى “محور المقاومة” استراتيجية حيال مستقبل حرب غزة؟
A+A- غَيَّرت التطورات الأخيرة المفاجئة والسريعة في غزة، بدءاً من هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الذي شنته “حماس”، والرد الإسرائيلي الواسع والقاسي عليه، أموراً كثيرة في وقت قصير بخصوص مسار الأحداث المستقبلي في المنطقة ومواقع الفاعلين الإقليميين والمحليين في هذا المسار وقدرتهم على التأثير فيه. أحد أبرز هؤلاء الفاعلين هو “محور المقاومة” الذي يجد اليوم نفسه، في سياق الأحداث الجارية، في موقف صعب جداً يتعلق بالموازنة بين الحاجات والوقائع المحلية الوطنية والنزوع الإقليمي، الإسلامي والعربي، أي بين الرغبة السياسية والرسمية، وغالباً الشعبية، للدول التي ينشط فيها المحور بقوة (العراق، لبنان، سوريا) بعدم الدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائيل والولايات المتحدة لأسباب براغماتية واضحة، وبين الاضطرار الايديولوجي، وربما الضغوط الإيرانية، بضرورة خوض هذه المواجهة.
تأريخياً، تشكل “محور المقاومة” كرد تدريجي ومتصاعد على عبارة “محور الشر”، المثيرة للجدل وقتها، التي وردت في خطاب “حالة الاتحاد” للرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش في نهاية كانون الثاني (يناير) 2002. في هذا الخطاب الذي تلى الإطاحة العسكرية الأميركية بنظام “طالبان” في أفغانستان بشهرين، ذكرَ بوش أن العراق وإيران وكوريا الشمالية تمثل، بمجموعها، “محور الشر” الذي يهدد السلم العالمي؛ بسبب التحالف المفترض لهذه الدول مع قوى إرهابية، وامكانية تزويدها هذه القوى بأسلحة دمار شامل. كانت الولايات المتحدة، المجروحة عميقاً حينها بسبب تفجيرات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ، والقلقة من تكرار تفجيرات أخرى على أراضيها، تحت النشوة المؤقتة لإطاحتها بنظام “طالبان” الذي آوى تنظيم “القاعدة” رافضاً تسليم زعيمه الذي خطط هذه التفجيرات وقادها، أسامة بن لادن. في سياق حس استرداد الثقة بالنفس المتصاعد حينها، توجهت أنظار أميركا نحو العراق ضمن سعيها، الفاشل لاحقاً، لاستئصال “جذور التطرف” من المنطقة عبر نموذج ديموقراطي عراقي يصبح ملهماً لبقية دول المنطقة.
من هنا كان الاستعداد الإيراني لمجيء أميركا الى المنطقة عبر بوابة العراق، لتبدأ تدريجياً بتشكيل “محور المقاومة” لإفشال المشروع الأميركي المقبل. وعلى رغم أن الاستخدام الأول لمصطلح “محور المقاومة” كرد على خطاب بوش كان ليبياً، عبر إحدى الصحف الليبية الرسمية وقتها التي ذكرت أن القاسم المشترك بين الدول الثلاث التي استهدفها بوش في خطابه هو مقاومتها للهيمنة الأميركية، فإن التفعيل الحقيقي للمصطلح كان إيرانياً بامتياز. كانت فكرة المحور، من وجهة النظر الإيرانية، هي استخدام منظمات ومؤسسات في دول المنطقة للدفاع، على نحو غير مباشر، عن مركز الثورة الإسلامية – إيران – (وفي بعض التخريجات الإيرانية، “أم القرى” في إحالة تراثية دينية) عبر وقوف “الأطراف” ضد خصوم “المركز” المتمثلين بالولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاء أميركا الآخرين في المنطقة. في التبرير الايديولوجي لمحور المقاومة، يمثل هؤلاء الخصوم التغريب والقوى والأفكار “الدخيلة” على المنطقة بإزاء الأصالة الأخلاقية والثورية والدينية التي تمثلها الجمهورية الإسلامية. على هذا النحو، صُوّر الصراع بين الإثنين على أنه صراع هويات بين الشرق الإسلامي والثوري، بزعامة إيران و”أصدقائها” من الدول كسوريا والعراق، فضلاً عن منظمات المحور الكثيرة والغرب العلماني، بحلفائه الإقليميين من دول المنطقة، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية التي تمثل تهديداً جدياً للأصالة والأخلاق المشرقية. تضمن المحور منظمات شكلتها إيران ودعمتها، كـ”حزب الله” اللبناني وكثير من الفصائل العراقية المسلحة كـ”عصائب أهل الحق” و”كتائب حزب الله”، وأخرى، تشكلت بعيداً عن إيران، لكن دخلت الأخيرة معها في علاقات وطيدة، وغير متكافئة، تدور حول المصالح المشتركة، كالحوثيين في اليمن و”حماس” في فلسطين.
أفادَ “محور المقاومة” إيران كثيراً، إذ استطاعت عبره استنزاف وإزعاج بعض خصومها الأقوياء كما في مدها فصائل “المقاومة” العراقية المختلفة بالأسلحة والأعتدة لاستهداف القوات الأميركية في العراق وفي استخدام الحوثيين للضغط على السعودية، واستنفار كل مواردها المباشرة كالحرس الثوري الإيراني وغير المباشرة كتشكيلات محور المقاومة اللبنانية والعراقية وحتى الأفغانية للدفاع عن النظام البعثي في سوريا ومنعه من السقوط.
مؤسساتياً، ينضوي “محور المقاومة”، الذي يستفيد كثيراً من الدعم الرسمي وغير الرسمي الإيراني، تحت قيادة فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الذي يأتمر مباشرةً بأوامر المرشد الأعلى، السيد علي خامنئي، من دون المرور بالحكومة الإيرانية. مع ذلك، تتمتع فصائل محور المقاومة بالكثير من المرونة، بما يعنيه هذا من حرية اتخاذ القرار على أساس الوقائع المحلية، من دون الحاجة للعودة إلى القيادة في طهران بخصوص معظم القرارات. تُعد هذه المرونة أحد أهم أسباب نجاح “محور المقاومة” واستمراره في التأثير في أوضاع السياسة والحرب في المنطقة لصالح إيران.
تمثل حرب غزة الآن تحدياً كبيراً وغير مسبوق لمحور المقاومة بسبب التكاتف الغربي القوي مع اسرائيل، هذه المرة، بعد هجمات السابع من أكتوبر، ونشر الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، أسلحة متقدمة وكثيرة في المنطقة، لمنع دخول فصائل “محور المقاومة” غير الفلسطينية في الصراع العسكري الدائر في غزة بين إسرائيل و”حماس”. يشي هذا النشر، والخطاب المباشر والصريح الذي يرافقه، باستعداد غربي معلن للدخول في مواجهة مسلحة مع هذه الفصائل. أيضاً، كان التهديد الأميركي لإيران على لسان الرئيس جو بايدن واضحاً بخصوص العزم الأميركي على الرد عسكرياً على إيران اذا حاولت التدخل في صراع غزة.
في خضم هذه التحولات الكبيرة وعرض القوة الغربي في المنطقة غير المسبوق منذ 2003، بالتهديدات السرية والعلنية لإيران و”محور المقاومة”، اختفت من الخطاب الإيراني نديته المعهودة ضد الولايات المتحدة في اشارة واضحة أن إيران ليست راغبة في مواجهة عسكرية مع الغرب من أجل غزة. حل محل الخطاب المألوف بخصوص المواجهة والجهاد خطابٌ دبلوماسي حذر ومفتوح على تفسيرات مختلفة، لكنه مهتم بإيجاد الحلول السياسية، وليس خوض المواجهات العسكرية. قد يتغير هذا النهج الإيراني ويتحول الى المواجهة، خصوصاً إذا ظهر تراخ عسكري غربي في الاستعداد للمواجهة وخوضها عسكرياً.
التحدي الهائل الذي تواجهه إيران، ومعها “محور المقاومة”، هو أن إمضاء الرؤية الغربية التي برزت سريعاً بعد السابع من أكتوبر والمتضمنة إنهاء “حماس” عسكرياً ثم العمل جدياً على إحياء مسار حل الدولتين، وصولاً إلى تشكيل دولة فلسطينية مستقلة، سيعني نهاية “محور المقاومة” وفقدان إيران الكثير من نفوذها الجيوسياسي في المنطقة. تمركزت الشرعية العلنية، وليس بالضرورة الحقيقية، لـ”محور المقاومة” حول فلسطين والاستعداد للقتال من أجلها حتى التحرير، هذا الهدف الغامض الذي لم يتم تعريفه بوضوح لحد الآن. دلالة عدم خوض المواجهة الحالية الى جانب “حماس” في غزة هي أن فلسطين وتحريرها، على أي نحو وإن كان مطاطاً ومفتوحاً على تفسيرات مختلفة، لم يكن هدفاً أساسياً لا للمحور ولا لإيران، وأن هدف المحور الحقيقي هو خدمة المصالح الإيرانية وليس تحرير فلسطين. إذا نجحت الرؤية الغربية بخصوص غزة وتحولت إلى واقع فسيكون هذا ضربة كبرى وطويلة الأمد لإيران و”محور المقاومة”.