1

فيما تتحدّث إسرائيل علنًا عن ارتكاب التطهير العرقي بحق الفلسطينيين في غزة، تلوذ الدول الغربية بالسكوت.

بذلت إسرائيل قصارى جهدها على مدى العقود الماضية لإعادة تعريف عمليات التطهير العرقي التي ارتكبتها بحق سكان فلسطين العرب في العام 1948 من خلال تصوير ما حدث على أنه كان نتيجةً لإقدام العرب على ترك بيوتهم طواعيةً، أو إذعانهم لأوامر قادتهم بالمغادرة. هكذا سعى الإسرائيليون إلى تقويض الاتهام بأن إسرائيل أُقيمت على أساس ممارسات تُصنَّف بأنها جريمة ضدّ الإنسانية. مع ذلك، لا يتوانى كبار القادة الإسرائيليين وبعض المسؤولين السابقين اليوم عن الخوض في نقاش علني حول التهجير الجماعي للفلسطينيين قسرًا من غزة إلى مصر.

قالت صحيفة فاينانشل تايمز هذا الأسبوع، نقلًا عن مصادر، إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يسعى إلى إقناع القادة الأوروبيين بالضغط على مصر لقبول اللاجئين من قطاع غزة في أراضها. وإذ حاول دبلوماسي غربي حصر نطاق هذا التصريح بالقول إن نتنياهو يريد من المصريين استضافة الفلسطينيين “على الأقل خلال فترة الصراع”، إلّا أن نتائج محاولة الإيضاح هذه عبثية. فنتنياهو لا يكترث إطلاقًا بما فيه خيرُ الشعب الفلسطيني الذي يرتكب جيشه منذ ثلاثة أسابيع مجازر بحقه. بل إن ما يريده هو أن تفتح مصر أبوابها كي يتسنّى لإسرائيل إغلاقها بشكل دائم بمجرّد خروج الفلسطينيين من ديارهم. هذا ما حصل في العام 1948، وأحمقٌ من يعتقد أنه لا يمكن أن يحدث مجدّدًا.

تتزامن هذه الضغوط التي يمارسها نتنياهو مع تقارير متواترة عن إصدار وزارة الاستخبارات الإسرائيلية وثيقة أوردت فيها قائمةً من الخيارات المطروحة أمام السلطات الإسرائيلية للتعامل مع الفلسطينيين في غزة. من ضمن هذه الخيارات أن تعمد إسرائيل إلى “إجلاء السكان من غزة إلى سيناء”، و”إنشاء منطقة عازلة بعمق كيلومترات عدة داخل الأراضي المصرية، وعدم السماح بعودة الفلسطينيين إلى النشاط أو السكن بالقرب من الحدود الإسرائيلية”. وتضيف الوثيقة أن هذا المشروع يستوجب من إسرائيل بذل جهود مكثّفة من أجل استقطاب الدعم الدولي له، ولا سيما من الولايات المتحدة. حتى مع الإقرار بأن ترجمة Google translate غير دقيقة، فإن دقة هذه التوصية لا تقبل الجدل نظرًا إلى أن نتنياهو يروّج للفكرة عينها.

لهذا السبب تحديدًا، لا يمكن تصديق الادّعاءات الإسرائيلية بأن الوثيقة الصادرة عن وزارة الاستخبارات هي مجرّد “ورقة مفهومية” أو طرح افتراضي. فالكثير من الأفكار الجديدة وغير المسبوقة في الحكومة تبدأ بشكل غير ملحوظ، تحديدًا لأن هذه هي الطريقة المنطقية والبيروقراطية كي لا تُلغيها على الفور البيروقراطيات المتنافسة. في الواقع، إنه لأمرٌ صادم في ذاته أن تقرّ إسرائيل بأن التطهير العرقي بات الآن جزءًا من حزمتها المفهومية للتعامل مع الفلسطينيين.

وإن كانت ثمة شكوك في هذا الصدد، فالمقال المُنفِّر الذي كتبه الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي جيورا إيلاند، كفيلٌ بإخمادها. فقد طرح إيلاند في مقاله “خياراته” الخاصة لمعالجة مشكلة الفلسطينيين في غزة. أحد هذه الخيارات هو “تهيئة الظروف لجعل الحياة في قطاع غزة غير ممكنة”، ما يؤدي إلى “التهجير الجماعي لسكان القطاع إلى مصر أو الخليج”. الهدف النهائي هو “أن تتحوّل غزة إلى مكان لا يمكن لأي إنسان العيش فيه، وأنظر إلى هذه النتيجة باعتبارها وسيلة وليس غاية. أقول ذلك لأن ما من خيار آخر لضمان أمن إسرائيل، فنحن نخوض حربًا وجودية”.

لا شكّ من أن مراكز الأبحاث والجامعات حول العالم ستستمر في دعوة إيلاند ليحلّ ضيفًا عليها، على الرغم من أن مقاله يتبنّى ارتكاب جرائم حرب (العقاب الجماعي، وتعمُّد إحداث آلام شديدة أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو بالصحة، وتدمير واغتصاب الممتلكات على نحو لا تبرّره ضرورات حربية، والنفي غير المشروع) وجرائم ضدّ الإنسانية، وفق التعريف الذي اعتمدته للتطهير العرقي لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة، التي أُوكل إليها البحث في انتهاكات القانون الإنساني الدولي في يوغوسلافيا السابقة. لذا، الاعتقاد السائد في أوساط مؤيّدي إسرائيل بأنها تشكّل نموذجًا أخلاقيًا يُحتذى به لا يبعث على الضحك فحسب، بل يتعارض مع أفعال وأفكار المسؤولين الإسرائيليين الحاليين والسابقين.

إن المسوِّغ الأمني الذي ساقه إيلاند لتبرير هذه الأفعال مثيرٌ للاهتمام، لأنه المبرّر الذي يلجأ إليه الأوغاد في كل مكان لعقلنة ارتكاب الجرائم النكراء. فمن أجل تحقيق أمن إسرائيل، لا بدّ من دفع نحو مليونَين من سكان غزة إلى الصحراء وكأنهم قبيلة ضائعة. ومن أجل قتل مسؤول واحد من حماس وتعزيز أمن إسرائيل، لا بدّ من إبادة حيّ بأكمله في مخيّم جباليا للاجئين، وإيقاع خسائر فادحة في الأرواح. ومن أجل حماية إسرائيل، تُطلَق يد العصابات من المتديّنين المسلّحين في الضفة الغربية، الذين كانوا ليُدرَجوا في معظم البلدان على قوائم الإرهاب، لطرد سكان القرى الفلسطينية من بيوتهم أو قتل الفلسطينيين العزّل وهم يقطفون الزيتون.

ما يثير الدهشة على وجه الخصوص أن البلدان الغربية تشاهد كل ما يحدث راهنًا، ولكنها تستخدم أفعال حماس الشرسة في 7 تشرين الأول/أكتوبر ذريعةً للتقاعس. وحتى بينما تُمعن إسرائيل في إبادة الآلاف من سكان غزة، فيما كثيرون آخرون لا يزالون تحت أنقاض المباني التي سوّتها بالأرض، رفضت الولايات المتحدة والدول الأوروبية الحليفة فرض وقف إطلاق النار في غزة، أو استمرّت في التعبير عن استنكارها إزاء القتلى الإسرائيليين، وبدت غير متأثّرة بضحايا الردّ الانتقامي الإسرائيلي. هذا ما يحدث على الرغم من تصريحات المسؤولين العسكريين الإسرائيليين الصادمة بأن “التركيز [في قصف غزة] هو على إحداث الضرر وليس على توخّي الدقّة”.

ما قد يتجلّى عن ذلك هو لحظة تأسيسية فارقة لهيمنة الغرب على الشؤون العالمية. فالضحية الأولى لحرب غزة هي من دون شكّ أوكرانيا، التي صُوّر الدفاعُ عنها في البلدان الغربية على أنه يعادل رفضَ ذلك النوع من الاسترضاء الذي أدّى إلى تسليم أجزاء من تشيكوسلوفاكيا إلى ألمانيا النازية. لقد انهارت الأُسُس الأخلاقية التي قامت عليها السردية الغربية بشأن أوكرانيا على وقع انهيار المباني السكنية في غزة. مَن سيصدّق مجدّدًا الخطاب الأميركي أو الأوروبي حول شرّ روسيا، فيما الكثير من البلدان الغربية لا يأبه بالقتل الجماعي الذي يرتكبه الجيش الإسرائيلي؟ في هذا السياق، على الأميركيين أن يلتزموا الحذر. فقد يكتشفون أنهم معزولون عندما يجولون على حلفائهم في العالم لمساعدتهم على منع الغزو الصيني لتايوان في نهاية المطاف.

يؤلمني أن أذكر الحجّة التبسيطية للغاية التي يسمعها المرء في مثل هذه الحالات، وهي أن الغرب عنصريّ في التمييز بين العرب وشعوب يعتبرها أكثر شبهًا بالغرب، مثل الإسرائيليين. لا أعتبر هذا التفكير إشكاليًّا على الكثير من المستويات فحسب، بل لا يسعني أيضًا إلا أن أعترف، نظرًا إلى المظاهرات التي تعمّ العواصم الغربية تنديدًا بالارتكابات الإسرائيلية في غزة، بأن الكثير من الأميركيين والأوروبيين، ومن بينهم عدد مفاجئ من اليهود، اختاروا الوقوف على الجانب الصحيح دفاعًا عن جميع الضحايا من دون استثناء منذ هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.

لكنّ للنخب في الولايات المتحدة وأوروبا منظورًا مختلفًا، أصبحت أعداد متعاظمة من شعوبهما تعارضه. هذا المنظور يعتبر في تأسيس إسرائيل تعويضًا عمّا هو ربما أعظم جريمة في التاريخ، أي الهولوكوست (أو محرقة اليهود)؛ ويرى أن إسرائيل امتدادٌ للغرب، وحليفٌ موثوق طوال نصف القرن الماضي؛ وينظر إلى على أنها عصرية وديمقراطية وليبرالية وسط منطقة من التعصّب والتخلّف. يمكن بالطبع التشكيك في عناصر كثيرة من هذه الرواية، ولذا عندما نسمع أولاف شولتز يعلن أن “إسرائيل دولة ديمقراطية تسترشد بمبادئ إنسانية للغاية، ولهذا السبب يمكننا أن نتأكّد من أن الجيش الإسرائيلي سيحترم القواعد التي يحدّدها القانون الدولي في كل ما يفعله”، نتساءل ما إذا كان المستشار الألماني يصدّق فعلًا مثل هذا الهراء أو ما إذا كان لديه في الواقع جهاز تلفزيون.

فيما يفاقم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الانقسام الذي تشهده المجتمعات الغربية، لا مفرّ من أن يتغيّر ببطء المزاج السائد في أوساط النخب في أوروبا والولايات المتحدة. ولكن في الوقت الراهن، هذا التبدّل ليس باديًا للعيان على الإطلاق. والدليل على ذلك أن الإسرائيليين يتحدّثون الآن صراحةً عن التطهير العرقي بحق أكثر من مليونَي فلسطيني في غزة، على مرأى من البلدان الغربية التي تواصل انخراطها في مؤامرة صمت مخزية.

التعليقات معطلة.