سام منسىإعلامي لبناني قدم لعدة سنوات برنامجا حواريا سياسيا في قناة الحرة. المدير العام لإذاعة “صوت لبنان” سابقا والمدير التنفيذي السابق لـ”بيت المستقبل”، وكاتب عمود في “الشرق الأوسط”. مهتم بجمع ومعالجة البيانات المتعلقة بشؤون الشرق الأوسط، خصوصاً الجوانب السياسية والاجتماعية للتنمية العربية
تحُول الولايات المتحدة دونَ صدور قرار لمجلس الأمن لوقفٍ فوري لإطلاق النار في غزة، عبر استعمالها حق النقض، مقابل إجماع بقية الأعضاء، واقتصرت موافقتها على مسودة القرار الأخير بزيادة المساعدات الإنسانية دون وقف لإطلاق النار. لم تخالف مواقف الحلفاء والمجتمع الدولي برمته فحسب؛ بل تخلت عن الأهداف التي يكررها الرئيس جو بايدن، بحماية المدنيين، والالتزام بالقانون الإنساني، والمزيد من المساعدات. هذا الموقف يسمح باتهامها بالتحيز في تطبيق قوانين النزاع، وتشجيع الجهات التي تنتهك القانون الإنساني الدولي على الإفلات من العقاب.
كل ذلك لم يمنع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من القول في جلسة لـ«الكنيست»: «إن من لا يصمد بوجه الضغوط الأميركية لا حاجة إلى دخوله مكتب رئيس الوزراء»، معتبراً أن الفرق بين «حماس» والسلطة الفلسطينية هو أن «حماس» تريد القضاء على إسرائيل فوراً، بينما السلطة تريد القضاء على إسرائيل تدريجياً.
مواقف نتنياهو تأتي في سياق الخلاف بين واشنطن وتل أبيب، بشأن المرحلة التي ستلي حرب غزة ومن سيتولى حكمها؛ إذ يرفض حتى الآن تولي السلطة الفلسطينية الحكم بعد «حماس». الرئيس الأميركي جو بايدن عبَّر علناً عن الخلاف، عندما قال إن الحكومة الإسرائيلية ترفض حل الدولتين، وإنه حضَّ نتنياهو على «تغيير حكومته» وإن إسرائيل بدأت تفقد الدعم الدولي. كيف ستتَّجه الأحداث بعد أكثر من شهرين ونصف شهر على هذه الحرب المروعة، من دون أفق لمآلاتها، وسقوط آلاف الضحايا البريئين، والدمار الهائل الذي وصفه المفوض الأوروبي للشؤون الخارجية، جوزف بوريل، بأنه يفوق ما شهدته ألمانيا في الحرب العالمية الثانية؟ السمة السائدة في هذه المرحلة هي ضياع للأطراف كافة؛ بحيث لا تعرف كيف وإلى أين تتجه الأمور، مع احتمال تصاعد حدة التوتر بين واشنطن وتل أبيب، وتداعيات ذلك على الحرب الدائرة.
بالنسبة لـ«حماس»، وعلى الرغم من نجاح عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) المفاجئة، يكشف ميزان الربح والخسارة أن غزة دُمرت بالكامل، ولا بد من أن تكون قد أُنهكت عسكرياً، وفقدت الآلاف من مقاتليها ومناصريها. ويوم تتوقف الحرب وتبدأ السياسة، فلن تكون المنتصرة، ولن تستمر في حكم غزة؛ لأنها باتت مرفوضة، على الرغم من قدرتها على إعلان النصر، والاستمرار في خطاب التحرير والقضاء على إسرائيل من خارج فلسطين، كما فعل قبلها «حزب الله» بعد حرب سنة 2006، وإعلانه النصر «الإلهي».
بالنسبة لإسرائيل، لم تعد بعيدة عن تحقيق ما سوف تعده نصراً؛ لا سيما إذا قُدِّر لها أن تقضي على التنظيم العسكري لـ«حماس» في غزة، وهذا أمر شبه مستبعد. لكن انتصارها هذا لن يكون أكثر من مدماك لحرب جديدة قد تكون أشد ضراوة وعنفاً من الحالية. فإذا تحقق الانتصار العسكري فسيكون -أولاً- مبنياً على جهل بحقيقة «حماس» وأمثالها، بأنهم تيار وفكر وعقيدة يستحيل اقتلاعهم. وثانياً لن يكون محصناً برؤية سياسية لما بعد الحرب، وهذا ما تشي به مواقف نتنياهو والزمرة اليمينية المحيطة به، وقد عبَّر عن رأيهم بقوله إن خيار الحرب مع السلطة الفلسطينية على الطاولة، ما يشير إلى قصور مرضي يستحيل علاجه، ليس بمقدوره أن يفهم ويقتنع أنه لا يمكن ابتلاع حقوق الفلسطينيين والعيش بسلام، وأن أمان إسرائيل لن يتحقق من دون دولة مستقلة للفلسطينيين، وهذا ما كرره الرئيس بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن.
نتيجة ما سبق، هو أن مسار هذه الأزمة هو الحائط المسدود، والدوران في حلقة الحروب ووقف النار. فلا انتصار «حماس» المعنوي، ولا انتصار إسرائيل العسكري الدموي، من دون الحل السياسي العادل، سيؤدي إلى نتائج إيجابية في المنطقة. إن معنى الانتصار في القاموسين الإسرائيلي والحمساوي الممانع، تنبغي مقاربته من زاوية الامتدادات الإقليمية لعملية «طوفان الأقصى» وحرب غزة بعامة، وهو ما تردد كثيراً بعد العملية، والاختراق غير المسبوق الذي حققته «حماس».
لا يمكن الاستهانة بالعوامل الإقليمية، بدءاً من دقة وتعقيد العملية، وما سبقها وتلاها من شعار وحدة الساحات، إلى تحرشات الحوثيين في باب المندب والبحر الأحمر المتصاعدة، إلى «الحرب المنضبطة» في جنوب لبنان، فضلاً عن الحشد العسكري الغربي بعامة، والأميركي بخاصة، في المنطقة، من الخليج إلى المتوسط، والواضح أن هدفه يتجاوز قضية تقديم العون إلى إسرائيل، ليصل إلى التصدي لمشروع حرب إقليمية قد تنجر إليها الأطراف المعنية، دون أن تكون راغبة فيها.
«طوفان الأقصى» قد يكون الشرارة التي أشعلت حرباً إقليمية كامنة بين الاعتدال من جهة والممانعة التي تقودها إيران والتطرف الإسرائيلي المتشدد والعنيف معاً من جهة أخرى، المتوافقين على رفض حل الدولتين، وتالياً رفض تسوية شاملة جذرية للصراع. إنها حرب باتت تتجاوز أهدافها المعلنة، وتظهّر معالم النزاع بين الاعتدال وحلفائه الحريص على مستقبل مزدهر وحوكمة رشيدة، وكل القوى الأخرى المناهضة في الإقليم وخارجه.
إن التفكير المعمق في معنى التسوية الكبرى المنشودة في المنطقة بمنظور القوى المؤدلجة والمتشددة، المتمثلة بإيران ومعظم حلفائها والمتشددين الإسلاميين، من «إخوان مسلمين» وغيرهم، فهي لا تعني أكثر من سقوط الشعارات التي تتمسك بها، بدءاً من تحرير كل فلسطين واستعادتها بالكامل، وصولاً إلى مشروع الهيمنة على الإقليم. التسوية الكبرى ستفرِّغ محور طهران من مضامينه السياسية، وتعرِّي المنظمات خارج الدولة برمتها مما تدعيه من مشروعية في بيئاتها المحلية، ولدى مؤيديها في الإقليم. وبنظر المتشددين الإسرائيليين: التسوية الشاملة تعني تنازلات مؤلمة، وإنشاء دولة فلسطينية مرفوضة أساساً.
التسوية الكبرى متعذرة بسبب رفض الممانعين، وهرب الولايات المتحدة من ممارسة أقصى الضغوط على إسرائيل كما على إيران، متحملة وحشية الأولى واستفزازات الثانية اليومية، بحجة أن الوقت غير ملائم داخلياً قبل انتخابات رئاسية حامية من جهة، وبسبب الانشغال في حرب أوكرانيا من جهة أخرى.
فإذا كانت التسوية الكبرى بعيدة المنال، فهل التسويات الجزئية والتفاهمات المؤقتة متاحة؟ إذا كانت على غرار ما يتردد عن تفاهمات إسرائيلية مع «حزب الله» بشأن انسحابه من جنوب لبنان إلى شمال نهر الليطاني، وإنشاء مراكز مراقبة مع الفرنسيين والجيش اللبناني، بهدف تطبيق القرار 1701، فهي لا تبشر بالخير؛ لأنها لا تتعدى شراء الوقت وبيع الأوهام بهدف تأخير الحرب المقبلة مع الحزب الذي يُطلب منه إلغاء مبررات احتفاظه بالسلاح شمال الليطاني، أي الخيار بين قبوله بالانتحار وبين الحرب الداخلية في لبنان.