تحتاج واشنطن إلى شركاء موثوقين مثل أنقرة وعليها سرعة إدراك ذلك في ظل النظام العالمي المتغير
لقاء سابق جمع الرئيسين الأميركي جو بايدن والتركي رجب طيب أردوغان (أ ف ب)
خلال العام الماضي كانت العلاقات التركية- الأميركية يسود عليها حالة “انعدام الثقة المتبادلة”، ووصلت العلاقات بين البلدين إلى مستويات متدنية، فيما كان بيع طائرات “أف 16” لأنقرة على جدول أعمال الطرفين، وطوال 2023 لم يحصل تطور إيجابي لافت للعلاقات بين الطرفين، وبعد بدء الحرب الإسرائيلية على غزة أضيفت قضية جديدة إلى القضايا الإشكالية بين تركيا والولايات المتحدة.
قضية الـ”أف 16″
إذا نظرنا إلى كيفية تطور العملية خلال عام، في مثل هذا الوقت تقريباً من السنة الماضية، بدأت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في إجراء مشاورات غير رسمية مع أعضاء الكونغرس في شأن بيع 40 طائرة جديدة من طراز “أف 16” و80 مجموعة تحديث لتركيا، و40 طائرة من طراز “أف 35” إلى اليونان، وتقديمها معاً إلى الكونغرس الأميركي.
وهكذا حاولت إدارة بايدن إزالة الاعتراضات المحتملة من خلال إخبار أعضاء الكونغرس الذين قد يعترضون على بيع طائرات “أف 16” لأنقرة، بعبارة “سنبيع تركيا طائرات (أف 16) لكن في المقابل سنزود اليونان بطائرات (أف 35)، وبذلك تكون الطائرات المقدمة لأثينا متفوقة على تلك المقدمة لأنقرة”، وبالفعل اتخذت الإدارة الأميركية خطوات بهذا الشأن.
لكن على رغم ذلك، فإن هذا يذكرنا بحقيقة أن التوازن الذي حافظت عليه الولايات المتحدة بين اليونان وتركيا بعد الحرب العالمية الثانية قد تم كسره بشكل واضح لمصلحة أثينا.
لفترة طويلة أصرت الولايات المتحدة على أن موافقة تركيا على بروتوكول انضمام السويد لحلف “الناتو”، وبيع طائرات “أف-16″ هما قضيتان منفصلتان عن بعضهما، لكن كما شهدنا الأسبوع الماضي فإن تركيا صادقت على انضمام السويد لـ”الناتو” وتلا ذلك مباشرة البدء في خطوات بيع الطائرات لأنقرة.
بحسب الإجراءات المتبعة، فإن بروتوكول الانضمام يجب أن يسلم إلى الولايات المتحدة كونها “الدولة المودعة”، وعلى عجل تم إرسال البروتوكول، إذ إنه بعد المصادقة عليه مباشرة لم تكن هناك رحلة من تركيا إلى واشنطن، فتم إرساله إلى نيويورك، ومن هناك استلمه المسؤولون الأميركيون وأخذ لعرضه على أعضاء الكونغرس، ونتيجة لذلك أخطرت وزارة الخارجية الأميركية، يوم الجمعة 26 يناير (كانون الثاني) الماضي، الكونغرس رسمياً ببيع طائرات “أف 16″ لتركيا و”أف 35” لليونان.
عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري عن ولاية نيوجيرسي، بوب مينينديز، ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، الذي صرح بأنه لن يسمح ببيع طائرات “أف-16” لتركيا طالما بقي في منصبه، ومعروف بقربه من اليونان، وضمن اللوبي اليوناني ومتزوج من أرمينية، اتهم هو وزوجته بالفساد، واضطر إلى ترك منصبه بسبب هذه الاتهامات، أما بديله بن كاردين، قال إنه سيدعم بيع طائرات “أف 16” لتركيا، وبالمثل جاءت إشارات أخرى إيجابية من مجلس النواب، وفي النتيجة على ما يبدو فإن قضية السويد و”أف 16″، التي أشغلت العلاقات التركية- الأميركية لفترة من الوقت، ومنعت معالجة القضايا الإشكالية الأخرى إلى حد ما، كانت مفاجأة.
أنظمة “أس – 400” وبرنامج “أف 35”
شراء طائرات “أف 16” مهم للقوات الجوية التركية، ولكن بعد شراء منظومة “أس – 400” من روسيا، تعرضت تركيا لعقوبات في إطار قانون “مكافحة أعداء أميركا بالعقوبات”، الأمر الذي أدى إلى إزالتها من برنامج “أف 35″، وعلى رغم أن أنقرة ذكرت مراراً وتكراراً أن الأنظمة الروسية ستستخدمها بمفردها، إلا أن الولايات المتحدة اشترطت إزالة هذه الأنظمة من الأراضي التركية من أجل رفع العقوبات، وفي هذا السياق برز إلى الواجهة اقتراح تسليمها إلى أوكرانيا.
وفي الوقت الذي توزع فيه الولايات المتحدة طائرات “أف 35” بسخاء على حلفاء آخرين في “الناتو”، فإن محاولة تقييد تركيا بطائرات “أف 16” ليس موقفاً مقبولاً، ومن أجل حل مشكلات “أف 35” ومنظومة “أس – 400″، يجب اتخاذ بعض الخطوات الإبداعية وتحتاج الولايات المتحدة إلى تخفيف موقفها الحالي قليلاً، وفي هذه المناسبة تجدر الإشارة إلى أن صناعة الدفاع التركية تطورت خلال الفترات التي فرضت فيها واشنطن عقوبات على أنقرة في الماضي، إذ إنه خلال السنوات الأخيرة، وبناء على البنية التحتية التي كانت موجودة من الماضي، وصل معدل التوطين في صناعة الدفاع في تركيا إلى 80 في المئة.
على جانب آخر فإن الدعم الأميركي لحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب يسمم العلاقات بين البلدين، فهل سيؤثر حل قضيتي السويد و”أف 16″ على قضية الدعم الأميركي لهذه التنظيمات؟
أدت حرب غزة ودعم الولايات المتحدة غير المشروط لإسرائيل إلى زيادة الهجمات على الوجود الأميركي في سوريا والعراق، لدرجة أنه تم تنفيذ ما يقرب من 150 هجوماً ضد القواعد الأميركية وقوات التحالف منذ منتصف أكتوبر (تشرين الأول” الماضي، وعلى أثر رد واشنطن على هذه الهجمات وتنفيذ عمليات ضد بعض الأفراد والأهداف في العراق، دعا رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى انسحاب الجنود الأميركيين من بلاده.
وفي هذا الصدد أيضاً، أعلن الأسبوع الماضي عن تشكيل لجنة عسكرية عليا بين الطرفين لإنهاء بقاء قوات التحالف الدولي في العراق، وفي 27 يناير الماضي، اجتمع مسؤولون عسكريون من البلدين للمرة الأولى في بغداد، برئاسة شياع السوداني، لتحديد الجدول الزمني لانسحاب قوات التحالف من العراق. وفي الوقت نفسه زعمت بعض وسائل الإعلام، بما فيها مجلة “فورين بوليسي”، نقلاً عن مسؤولين أميركيين أن انسحاب القوات الأميركية من سوريا مدرج على جدول الأعمال، وأن إدارة بايدن تعالج هذه القضية.
وعلى رغم أن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) العميد باتريك رايدر، صرح في مقابلته مع وكالة “الأناضول” بأن الانسحاب من سوريا غير وارد في الوقت الحالي، إلا أن توقيت الأخبار المعنية مهم من عدة جوانب.
أولاً، إن خسارة ولو جندي واحد في هجمات على قواعد أميركية في وقت بدأت فيه الانتخابات الرئاسية الأميركية سيكون بمثابة كارثة بالنسبة لبايدن، الذي يتخلف بالفعل عن دونالد ترمب في استطلاعات الرأي.
ثانياً، يعارض الجمهوريون بشكل خاص الإنفاق الدفاعي لإدارة بايدن على دولة ثالثة في وقت يجب تصحيح المسار السيئ للاقتصاد وإيجاد حل عاجل لأزمة المهاجرين، إذ إن الحزمة البالغة 111 مليار دولار، والتي تشمل المساعدات العسكرية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان، والتي قدمتها إدارة بايدن إلى الكونغرس، لم يتم قبولها بسبب اعتراضات الجمهوريين.
كما تظهر الاستطلاعات أن المجتمع الأميركي منزعج أيضاً من حقيقة أن الحروب والصراعات التي تدور على بعد آلاف الكيلومترات من الولايات المتحدة تمول من الضرائب الخاصة بها.
ثالثاً، هناك من يرى أن الأخبار التي تفيد بأن الولايات المتحدة ستنسحب من سوريا والعراق ربما كانت بمثابة عنصر ضغط على إسرائيل من أنها ستبقى وحيدة في المنطقة إذا حافظت على موقفها تجاه غزة، لأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يواصل “ارتكاب المجازر” في القطاع على رغم التحذيرات الأميركية، الأمر الذي تسبب في الآونة الأخيرة في توترات بين الرئيس بايدن ونتنياهو.
الحقيقة هي أن الولايات المتحدة ليست دائمة في المنطقة، وستنسحب عاجلاً أم آجلاً من الشرق الأوسط للتركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ولكن هذا لن يحصل في المستقبل القريب.
إن مقتل ثلاثة جنود أميركيين مساء الأحد 28 يناير الماضي، وتصريح الرئيس بايدن بأن الجماعات المتطرفة المدعومة من إيران كانت وراء الهجمات قد يؤدي إلى تسريع عملية الانسحاب أو إطالة أمدها، اعتماداً على رد فعل الجمهور الأميركي، وعلى أية حال من الضروري أن تتخذ تركيا خطوات لضمان أمنها من خلال مراعاة مصالحها الوطنية خلال هذه الفترة.
وفي هذا السياق من الضروري إقامة اتصال مباشر مع حكومة دمشق والتوصل إلى تفاهم في شأن القتال المشترك ضد حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، لأنه في الوضع الذي تجتمع فيه روسيا والولايات المتحدة وإيران، من بين الجهات الفاعلة في الميدان، مع حكومة بشار الأسد، وتقدم أجنداتها الخاصة بشكل مباشر، فإن افتقار أنقرة إلى الحوار المباشر مع الأسد، الذي لديه حدود بطول 911 كيلومتراً مع تركيا، قد يتسبب في استبعادها من أية عملية.
إضافة إلى ذلك، فإن الاتصال مع حكومة الأسد ومراجعة بروتوكول أضنة لعام 1996 قد يضغط أيضاً على الولايات المتحدة وحزب الاتحاد الديمقراطي/ وحدات حماية الشعب، والوضع المثالي هو أن تركيا، بينما تعمل على تحسين الحوار مع الأسد، تزيد من تعاونها مع الولايات المتحدة في إطار التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”.
وإذا أصبح ترمب رئيساً، فقد يتخذ خطوة للانسحاب من المنطقة، كما فعل من قبل، ومع ذلك فإن المؤسسة الأميركية والقيادة المركزية، التي أنشأت رابطاً عاطفياً مع حزب الاتحاد الديمقراطي/ وحدات حماية الشعب، قد لا تسمح بذلك كما حدث في عام 2019.
ليست هذه فقط، بل هناك قضايا أخرى بين واشنطن وأنقرة تحتاج إلى معالجة، مثل قضية قبرص ومنظمة “فتح الله غولن”، والآن بعد أن انتهت قضيتا السويد و”أف 16” يجب البدء في الاتصالات بسرعة لمعالجة هذه القضايا.
هنا يمكن أن تكون زيارة القائم بأعمال نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي ووكيلة وزارة الخارجية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند إلى تركيا يومي 28 و29 يناير 2024 لحضور اجتماع الآلية الاستراتيجية بداية مهمة في هذا الجانب.
في مقابلة أجريت معه أخيراً، قال السفير الأميركي لدى أنقرة غيفري فليك، “يتفهم التحالف الآن بشكل أفضل حاجات تركيا الأمنية ومعركتها ضد إرهاب حزب العمال الكردستاني، الذي نعرفه جميعاً على أنه منظمة إرهابية، وتتقاطع أهدافنا في الحرب ضد الإرهاب مع بعضها البعض في العديد من المجالات… عندما يكون هناك اختلاف في الرأي، يكون هناك تنسيق”.
ربما تكون تصريحات السفير هذه إشارة إلى أن هناك تحركات إيجابية في شأن خط أنقرة- واشنطن، لكن تحول الخطاب إلى واقع عملي هو المعيار.
عموماً فإنه في النظام العالمي المتغير، تحتاج الولايات المتحدة إلى شركاء موثوقين مثل تركيا، وآمل في أن تدرك الولايات المتحدة ذلك الآن.
ملاحظة: الآراء الواردة في هذا المقال تخص المؤلف، ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لصحيفة “اندبندنت تركية”.