حامد الكيلاني
لماذا السرقة والاختلاس والرشوة، إذا كان بإمكان أفراد المجتمع أن يكونوا أصحاب مشاريع صناعية وزراعية وتجارية ويتنعمون بالرفاهية والاستقرار؟ هذا السؤال وُجد له متسع من التداول في قاعدة العراق الاقتصادية التي وفرها تأميم النفط في ذلك القرار الصادم للشركات الاستعمارية الغربية، وباستلهام صريح من تمرّد القيادة المصرية في العام 1956 بقرار تأميم شركة قناة السويس، وبمعرفةٍ وثيقةٍ بما حصل من عدوان ثلاثي لا تخطئه ذاكرة القيادة العراقية التي أقدمت على التأميم في بداية سبعينات القرن الماضي.
لا توجد أرقام أو إحصائيات عن نسب الفساد في العراق في ذلك العهد السبعيني الذي وُصفت التنمية فيه بالانفجارية، قياسا إلى نسب الفساد فيما بعد، وتحديدا مع حكومات الاحتلال الأميركي. الأكيد أن ثمة متغيرات جوهرية طرأت على المجتمع والنظام السياسي العام أدّت إلى استفحال الفساد كظاهرة، ولا نجانب الصواب إذا قلنا إن “الاحتفال” في 9 ديسمبر الجاري بيوم مكافحة الفساد الدولي يأخذ مدلولاته باحتفال الفساد وانتصاره على كيان الدولة العراقية الحديثة.
منظمة الأمم المتحدة تؤشر إلى نسب فساد تصل إلى 5 بالمئة من الناتج الإجمالي العالمي، بما يذكرنا برجل الأعمال الأرمني كالوست كولبنكيان الشهير جدا في العراق والملقب بـ”مستر 5 بالمئة” لأنه كان يتقاضى عمولة عن مساهماته في التفاهمات بين الشركات النفطية والدول ذات الشأن، للسماح بالتنقيب والحفر والاستخراج، ورغم تلك النسبة التي تشكل في مردوداتها مبالغ طائلة، إلا أن العراقيين الآن يتذكرون خدماته ببناء صروح مهمة، منها إنشاء ملعب الشعب الذي مازال الملعب الرئيس في بغداد ومتحف الفن الحديث ومعهد الفنون الجميلة وغيرها.
أي إن كولبنكيان، بأرباحه من عائدات نفط العراق، وضع لمساته كعرفان أو اعتراف أو امتنان للشعب صاحب الحق الكلي في ثرواته. وبالمقارنة، إذا صحت، تكون حكومات الاحتلال في حسابات نسب الشخصيات والأحزاب مرتفعة جداً ودون أيّ استحقاق للشعب العراقي.
ما ينطبق على الفساد في العراق من نسب الفساد الدولي له علاقة بالجرائم والمخدرات واستنزاف الموارد المالية في غير مقاصدها الإنمائية؛ الأمم المتحدة أيضاً بمنظماتها متعددة الأهداف لا تخلو من تهم تبذير الأموال في مهماتها الأمنية والإغاثية أو ببطالة موظفيها المقنعة أو الإسراف في نفقاتها، وهناك مراجعات ومواقف لنسب الحصص المترتبة على الدول الأعضاء لإدامة عمل وجهود المنظمة الدولية.
في العراق أعداد لا يستهان بها من الدرجات الوظيفية الرقابية للحد من الفساد الإداري والمالي، بما يعطي انطباعا ساخرا عن “فضائية” المهمات لأنها أحد جذور الهدر في المال العام، بل كانت أحياناً عائقاً أمام إنجاز المشاريع عندما وصلت أسعار برميل النفط إلى حدود الـ100 دولار؛ لغياب الثقة بين جميع الأطراف وزراعة الخوف في التسقيط السياسي ومحاصصة الوزارات وتسلسل المناصب والرؤية القاصرة بهيمنة الفكر الطائفي والاستئثار بالقرارات أو محاولات الإيقاع بالخصوم في تهم جاهزة سرعان ما تلقى رواجا للتصعيد داخل قبة البرلمان.
حجّة الإرهاب والطائفية هي فرس الرهان في التعتيم على كواتم الصوت وبعروض هزيلة استهدفت طمس الأدلة في مسرح الجرائم والاغتيالات لغايات التلاعب بأوراق رسمية، أو للضغط على آخرين لإتمام الصفقات، وما الحرائق المتكررة إلا مثال على ذلك.
فوضى السلاح والميليشيات والأجندات وتفكك قيم المواطنة تم تسخيرها في جزء منها لإتمام صفقات، وشراء ذمم، وفرض إتاوات، وتمرير قوانين، ورسائل لمشاريع نفوذ ترتقي إلى المساومة مع منظمات ودول.
الفساد في العراق له ثقوب سوداء غير الرشاوى والتعاقدات وما يدخل في صلاحيات النهب والسلب بحماية القوى النافذة، وهي قوى سلطوية تولتها أصوات المتظاهرين بالتنديد واللعنات ونشر الغسيل لشخصيات الصف الأول من مقاعد الاحتلاليْن الأميركي والإيراني، وصولا إلى مجلس القضاء الأعلى.
حكومة حيدر العبادي في عجلة من أمرها لإنشاء سجن خاص بالفاسدين، وبأثر رجعي لملفات تمّ إنجازها لتكون تحت اليد عند الطلب لغرض النيل من الخصوم عند تحركهم، ولو لعرض مظالم الناس أو فتح ملفات السجناء والتعذيب والمهجرين، وشواهد التصفيات والاختطافات حاضرة في الأذهان؛ أو لأغراض انتخابية.
ماذا عن الذين يطلق عليهم حيتان الفساد؟ هل سيقعون في شبكة الحرب على الفساد، أم إن الشبكة تصميم وصناعة محلية لصيد الأسماك الصغيرة والمتوسطة أو من هو خارج حدود السلطة؟ هل ستتمّ التضحية بعدد من المقربين سابقا للتحالف الطائفي والتضحية بهم بقرار داخلي ليكونوا طعما سائغا للإيقاع بحيتان من فصائل أخرى كانت تبدو عصية على الصيد؟
السجون في العراق كالفنادق تتدرّج في عدد نجومها، منها ما يقع على الشارع العام وأخرى في الشوارع الخلفية، بعضها خاضع لمزاج حقوق الإنسان في التفتيش والمتابعة والزيارات وبعضها الآخر تحت إمرة الباسدران الإيراني وتعاليمه، يطلق سراحهم متى شاء كما حدث قبل احتلال الموصل، أو يعلقهم في مشانقه كما جرى في ردّة فعل وزير العدل لامتصاص صدمة الشارع من فقدان الأمن.
أوجه الفساد غير المرئية هي في النظام السياسي المتخلف غير القادر على إدارة الأموال، أو استثمارها في تعددية مصادر الدخل وعدم الاكتفاء باقتصاد النفط المهدّد بالسياسات الخارجية ومضاربات الاستحواذ عليه من شركاء العملية السياسية للمحتل. أموال الدولة يمكن وصفها بأموال استهلاكية سقفها دائما منخفض وبلا طموحات تنموية.
سبق وإن التقيتُ بأحد الوزراء العراقيين وسألته عن حجم إنفاق الأموال كهبات شهرية لشرائح معينة وهي بالمليارات، ولماذا لا يتمّ تحويلها إلى مشاريع استثمارية لتشغيل الطاقات والعاطلين وما ينتج عنها من فائض أرباح ومبيعات وحركة سوق، إضافة إلى ما تحققه لخزينة الدولة لانصراف أموال الهبات تلك إلى أهداف تنموية بعد اكتفائها الذاتي. كانت إجابة الوزير “قابل إحنه بأوروبا”.
كم عدد المؤسسات في العراق ذات التوجه السياسي أو الطائفي الواحد في الإنفاق كنظام تقاعدي خاص؟ كم عدد الفائضين من المؤسسات العسكرية والاقتصادية والإنسانية والثقافية ما قبل الاحتلال، وجارت عليهم وعليها القوانين بالإحالة إلى التقاعد عن الخدمة العامة؟ كم عدد المصانع المتوقفة عن العمل في القطاع العام والخاص بعد الاحتلال وقبله بالحصار والعقوبات الدولية؟
أرض السواد يضربها الجفاف وشحّ مياه السقي وتراجع المحاصيل الزراعية وقائمة طويلة من الانكفاء في الثروات الحيوانية والسمكية والمراعي الطبيعية؛ إن أي حرب على الفساد لا تعني سوى عقوبات ضدّ الأفراد أو إعادة أموال مهما بلغت لن تقترب من حجم السرقات وتأثيرها، أو من طريقة إنفاقها وتشغيلها.
النظام السياسي في العراق أطاح بالإنسان وصحته وتعليمه وثقافته، وانصرف لتدعيم الميليشيات وتثبيت الأمية عند نقطـة مفترقات تاريخية لن تخدم إلا دعاة الإرهاب والانتقام من الآخر والتشهير به.
الحرب على الفساد تبدأ من إزالة آثار الاحتلال وإنهاء المشروع الإيراني الذي صادر العراق والمنطقة بمنطق الإرهاب، وكذلك البناء على مفاهيم مواطنة 100 بالمئة ومغادرة الاحتيال والنصب على العراقيين الذين تمكنوا في لحظة تاريخية من إلغاء حتى نسبة “مستر 5 بالمئة” رغم إنه كان أكثر نزاهة من حكام تحاصصوا مع شركاتهم الاستعمارية التي نقبت وحفرت من الباطن لتدمير بلاد كانت، ومازالت وستظل، تسمى بلاد الرافدين.