علي علي
منذ بضعة أشهر، شدت الموازنة رحالها لتخوض رحلتها المضنية بين أروقة مجلس النواب الضبابية ودهاليز الحكومة المظلمة، وهي عالمة بما ستمر به من جرجرة و (عرعرة)، فبرلماننا (سيف المجرب) بتأخير القراءات وتأجيل الإقرارات وإرجاء الموافقات الى المجهول، لاسيما حين يكون القرار او القانون متعلقا بمصلحة المواطن او مصلحة البلد. وهي -الموازنة- تائهة في بحر هذا البرلمان الزاخر بالسفن الغرقى والعالقة والمعطلة، والتي كتب لها أن تبقى نائية عن المرسى. ومنذ أشهر تعالت الصيحات من وزارات الدولة ومؤسساتها وكذلك الشركات المستثمرة الأجنبية، فضلا عن القطاعين المختلط والخاص، وفوق هذا وذاك المواطن المبتلى، فهو ينادي بإقرار الموازنة العامة، حتى بح صوته أسوة بمن بح صوته من السابقين، لكن الرد كان قد جاء قبل ألف وثلثمئة وسبعين عاما، حين قال عمر بن معد يكرب:
لقد أسـمعت لو ناديت حيا ولكن لاحياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت ولكنـك تنفخ في رمـاد
والموازنة في عراقنا الجديد ليست “أول مغرم.. فتكتْ به الوجنات والأحداق”. فغيرها من القوانين كثير ينتظر في طابور طويل، لايلوح في الأفق أمامه بصيص أمل. إذ لو أعدنا النظر الى ماكان يفعله مجلس نوابنا خلال ساعات الدوام الرسمي، لاتضح لنا أنه أشبه بعطلة طويلة تتخلها أيام شبيهة بأيام الدوام، أما أعضاء المجلس فهم كما هو معلوم (خلالات العبد) وعددهم محدد بـ (328) عضوا (نثية وفحل) أي أن أي تغيب لأحد منهم، يكون ملموسا ومحسوسا، وعلى وجه الخصوص في الجلسات التي تكون مخصصة لإقرار قانون او قراءة أخيرة لمشروع قرار. لكن واقع الحال لم يكن يعكس صورة الانضباط في ساعات الدوام كما ينبغي لها أن تكون في مجلس يعتمد على نتائج اجتماعاته ملايين العباد. وكلنا يتذكر كيف كانت تعقد الجلسات في زمن كانت البلاد فيه تضطرم بين نار الفتنة، وتتأجج نيران الفساد، وتتشطى شظايا الصراعات، فيما يقضي بعض الأعضاء ساعاتهم في كافتريا المجلس، فضلا عن غير الحاضرين أصلا، وبأعذار غير مشروعة ولا أصولية. أما استغلال العطل وتمديدها بشكل لم يكن يصب في خدمة المواطن فالحديث عنه (لاياخذ ليل ولايجيب عتابة).
كل هذه المعطيات ولدت لدى العراقيين ردود أفعال، والأخيرة ولدت بدورها انطباعا سجل على البرلمان سلبية، تضاف الى رصيده من السلبيات، لها مردوداتها الخطيرة على المواطن والبلد على حد سواء. فالخلافات والاختلافات التي يختلقها ويتبادلها ساستنا بتفنن متقن، أضحت منذ اعتلوا سدة الحكم، ككرة التنس او الركبي او المنضدة، يلهون بها ويتمتعون بمزاولتها وقضاء أوقاتهم بها في الملعب المسقف المدفأ شتاءً والمبرد صيفًا، وبأحدث وسائل الترفيه الذي يسمى قبة البرلمان. إذ يقيمون اجتماعاتهم هناك لأسباب وتعليلات بقوالب جاهزة مسبقا ومسميات رنانة منها؛ رأب صدع او رتق جرح او لم شمل او شد أزر، او توحيد رؤى او تقريب وجهات نظر، او تخاطب فِكَر او تلاقح أفكار او تناكح همم او تزاوج نوايا، وبالنتيجة يُسفر اجتماعهم عن شتات وتفرق وعراك يعود بالتالي على المواطنين بـ (هجمان بيوت).
أما ماحصل قبل أيام بشأن الفصل التشريعي للبرلمان، فبدل أن يكون ختامه مسكا، أبى مجلس نوابنا إلا أن ينهيه ليكون ختامه “زفت” بظرف تتقلب فيه الموازنة على صفيح نار سقر، ومعها طبعا المواطن المسكين، الذي يتحرق ألما وغصة على تردي وضع بلده، ولاحول ولاقوة لديه غير التجمل والتحمل والتصبر.