لماذا العراق “أهم” من بيت المقدس؟

2


آراء

بعيداً عن العاطفة، تَكمن المُجازفة في صناعة الرأي العام أو إبداءه حول مجريات الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط والصراع الدائر بين إيران و”إسرائيل” في اعتماد مفهوم “ما وراء الحقيقة” في مجالي الإعلام والسياسة.



إذ لم يُدرك مُناصِروا القضية الفلسطينية أن الحَرب النفسية هي السبب وراء معظم الخسارات في حروبهم مع “إسرائيل”.



وبَعد أن أصدر شمعون بيريز كتابهُ “الشرق الأوسط الجديد” في بدايات التسعينبات والذي تَضمن مُبادرة اقتصادية، ثقافية، سياسية، نَتجَ عنها معاهدة أوسلو للسلام، تفاجىء الإسرائيليون بانتفاضة الأقصى، وكان السؤال الأبرز عندهم، ما هو السبب الكامن خلف فشل حل الصراع؟



عَكَفَ بعد ذلك، أستاذ علم النفس السياسي والاجتماعي الإسرائيلي دانيال بارتال باحثاً عن الإجابة لتحديد مكامن الفشل، وبعد دراسات مُستفيضة توصل إلى طرح نظريته النفسية والتي اسماها بنظرية الصراعات المستعصية (Interactable conflicts).



توصل دانيال بارتال إلى أن الصراع النوعي بين الإسرائيلين ومحيطهم الشرق الأوسطي، هو نتيجة تَشَكُل معتقدات جَمعية تراكمية سلباً عند الرأي العام، وأنها هي التي تُجهض أي مشروع مبادرة أو سلام، ولهذا اقترح إعادة تشكيل الصورة النمطية عن إسرائيل من خلال صناعة الرأي العام في الدول العربية، كما أن دانيال بارتال ألمحَ إلى مقدمة كتاب شمعون بيريز في أنها “انتقدت إلغاء النُسخ العربية لبروتوكولات صهيون قبل 200 سنة وعَدهُ خطأ ارتكبهُ الصهاينة أنفسهم”.



ومنذ ذلك الحين، أدركَ الإسرائيليون أن العملَ على خلق صورة نمطية في الذهن العربي لا يمكن أن تكون إلا بإعادة إنتاج مفهوم السلام بـ”التطبيع” ومن خلال خطاب عربي تُنتجهُ مؤسسات صناعة القرار الإسرائيلي.



و على الجانب الآخر، وبينما انشغل العالم بلحظات تغيير النظام السياسي في العراق عام 2003، وانتقال مفهوم “الشيعة” من الأقلية أو الإثنية إلى “الحاكمية”، حينها وَجدت إيران أنها أمام فرصة ذهبية لتطرح نفسها لاعباً أساسياً وشريكاً في شرقٍ أوسطٍ بعد أُفول نظام صدام حسين، لتُعلن بعد ذلك عن ثمرة الثورة الإسلامية منذ 1979 بامتلاكها البرنامج النووي الإيراني في المنطقة.

كان ذلك مُتزامناً مع تسريبات مشروع الشرق الأعظم الذي طرحه بوش عام 2004 Greater middle east كجزء من مُبادرة أُطلق عليها بإستراتيجية الحُرية إلى الأمام.



اتفقَ الأوروبيون مع الاختلاف في بعض التفاصيل مع المشروع الأمريكي، وكان من جملة تلك الاختلافات هي استعمال مفهوم الحداثة بديلاً للديمقراطية، ظناً منهم أن الديمقراطية وحدها لن تُحدث فارقاً في الثقافة والمجتمع، ورُبما كانت هشاشة الديمقراطية في العراق وفشل ثورات الربيع العربي إحدى تمظهرات ذلك الاختلاف، وبينما كانت إسرائيل قد وصلت إلى نتائج إيجابية في تطبيقات نظرية دانيال بارتال، كانت إيران قد أكملت وضع ملفها النووي على طاولة المجتمع الدولي.



وفي الوقت نفسه، لا يتميز نتينياهو بإنه من أوائل الجيل الثاني لقادة إسرائيل فقط، بل أنه يمتاز بطرح إستراتيجية جديدة تختلف عن أسلافه، وهي نقل الصراع من داخل إسرائيل إلى خارج حدودها، و صولاً إلى معاهدة إبراهام التي كادت أن تُطبق كماشتها على الدبلوماسية السعودية لولا السابع من أكتوبر وطوفانهِ بعد أيام من تصريح الأمير “محمد بن سلمان” لوكالة “فوكس نيوز” بإن امتلاك السعودية برنامجاً نووياً على غرار برنامج إيران أصبح ضرورة حتمية.



ما لم يُسَلَط عليه الضوء، هو مشروع “التطبيع” بنسختهِ الإيرانية، والذي قُدِمَ كمقترح إلى الأمم المتحدة كجزء من مفاوضاتها بخصوص الملف النووي. وبالعودة إلى مضمون المقترح الإيراني الذي قدمه السفير الدائم لدى الأمم المتحدة مجيد تخت روانجي في الأول من نوفمبر عام 2019، ينتقد فيه إقرار الاعتراف بما أسماه “الكيان الصهيوني” دون إجراء إستفتاء في الأراضي الفلسطينية – أي بمعنى- أن إقرار الكيان الصهيوني كدولة كان منقوصاً.



ولعل من أبرز مظاهر الالتفاف على لغة الخطاب الدبلوماسي هنا هو الاستعاضة بمفردة الكيان بديلاً عن “إسرائيل”، أي أن “إسرائيل” – كدولة- لا ضَير فيها، ولم يتطرق المشروع الإيراني لها كمفهوم لتبقى دلالات المفاهيم عائمة على صعيد لغة العلاقات الدولية المُعلنة.



يُدرك الرأي العام الغربي، أن مفهوم الكيان الصهيوني لا يعني إسرائيل كدولة، ولا يُمثل جميع الإسرائيلين ولا حتى جميع اليهود أنفسهم، وهذه رُبما نتيجة واضحة لتطبيقات دانيال بارتال في إعادة تشكيل المعتقدات الجمعية عن الإسرائيلين وإيهام الرأي العام المضاد لإسرائيل بمفردة الكيان الصهيوني بدلاً من “إسرائيل” كدولة.



ومن المُفارقة أن خطوات تنفيذ المشروع الإيراني لإجراء إستفتاء على الأراضي الفلسطينية يشمل اليهود أنفسهم، وأما المهاجرين غير الأصليين فيُترك أمرهم للنظام السياسي بعد ذلك الاستفتاء، بحسب المقترح الإيراني.



إذن، نحنُ لسنا أمام تغييرات في خارطة الشرق الأوسط بعد التصعيد الأخير، بل إزاء تمهيدات لذلك التغيير. لأن العراق سيقف في منتصف مثلث لثلاث برامج نووية “إيراني- سعودي – إسرائيلي” بين مشروعين للتطبيع “إيراني- عربي”، وعلى المستويين القريب والمتوسط في وقت تطرح “إسرائيل” الدولة نفسها كشريك ولاعب في الشرق الأوسط.



تُرى، كيف يُمكن الاستشراف لمستقبل النظام السياسي الحالي الذي أنهكتهُ سياسات المحاور، سيما وأن العراق كَدولة هو العدو الأوحد لإسرائيل، ليس لإنه خارج مديات التطبيعين فحسب، و لا بوصفه عدواً دينياً فقط بل حتى تأريخياً – وهو الأهم- لأن ثأر السَبي البابلي يَكمنُ عند شاطئ الفرات.

التعليقات معطلة.