أكرم البني
قد لا يتطلب رصد التحولات التي طرأت في المشهد السياسي، مناسبة خاصة، كانتهاء عام وبداية عام جديد، لكن المنـــاسبة تشكل حافزاً قوياً لفهم ما يجرى حــــولنا، ولنقل فرصة لتقدير ما راكمته السنــــة المنصرمة من ظواهر سلبية لها تأثيــــرها الـمديد في تعميق أزماتنا ومفاقمـــة معاناة المضطهدين والمقهورين.
أولاً، انفتاح الصراع الدولي على معالم مرحلة تستمد مقوماتها من مناخ الحرب الباردة، بما هو انفتاح على فشل الولايات المتحدة في الحفاظ على موقعها كقطب وحيد سيطر عالمياً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لقاء نجاح روسيا في استعادة وزنها السياسي وهيبتها العسكرية، وتواتر التقدم الذي تحرزه الصين اقتصادياً، واتساع هوامش الحضور الأوروبي في مناطق نفوذه، بخاصة في أفريقيا، وتصاعد الأدوار الإقليمية لدول أقل أهمية مثل إيران وتركيا، ولا تغير هذه الحقيقة، بل تؤكدها وصول رئيس شعبوي وعنصري الى البيت الأبيض يفاخر بشعار، «أميركا أولاً» وبانسحابه، كأهم دولة عظمى، من واجباته الأممية، مستهزئاً باتفاقية المناخ، ومتبجحاً بأنه انتحب ليمثل مصالح بلاده فقط! ثم ذهاب استراتيجيته الأمنية، إلى تصنيف روسيا والصين كعدوين، ومطالبته بفرض إتاوات على بعض الدول لقاء دور واشنطن بحمايتها!
ما سبق لا يعني التطابق مع المقومات القديمة للحرب الباردة كافة، حيث سباق التسلح المحموم وتشديد الحصار الاقتصادي وتسعير المعارك الإعلامية والسياسية، وحيث سعي كل طرف الى استثارة الطرف الآخر وإرهاقه بتغذية الفتن والحروب بالوكالة، وتكريس ما أمكن من التخندقات والتحالفات الحادة، لكنه يعني عملياً، عودة بغيضة للصورة النمطية عن دول كبرى تستهتر بمصير البشرية وليس لديها أي خوف من الرأي العام والمؤسسات الأممية، وتتوسل منطق الغلبة والمكاسرة في مخاطبة الآخر وفي منازعته على الهيمنة والنفوذ من دون أن تقيم اعتباراً لمصالح الشعوب الضعيفة وحقوقها.
والحال، نعيش اليوم في عالم منحه انهيار الحرب الباردة فرصة لإدارة صراعاته السياسية والاقتصادية سلمياً، لكنه آثر العودة إلى تسويغ الحروب والقوة المباشرة العارية أو التهديد بها لفرض المصالح الخاصة والأنانية، وهذه المرة، على حساب المبادئ والقيم الإنسانية، التي شكلت، في ما مضى، أحد محاور الصراع بين عالم حر يروج للديموقراطية وحقوق الإنسان وبين نظام مركزي منضبط يفرض على البشر، بدعوى تطبيق العدالة الاجتماعية، صورة نمطية قاهرة لحياتهم… عالم تعجز فيه المؤسسات الأممية بتركيبتها الحالية، كمجلـــس الأمن والجمعية العامة، عن تحقيق أي اختــراق جدي لأداء واجبها بحفظ السلم والأمن وحماية المدنيين وحقوق الإنسان، ويحضرنا الفيتو الروسي المتكرر لدعم إفراط النظام السوري في العنف والانتهاكات ولتغطية استخدامه أسلحة محرمة دولياً، وأيضاً الفيتو الأميركي لدعم قرار ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس على قاعدة اعترافه بها عاصمة لدولة إسرائيل!
ثانياً، منذ مائة عام تقاسمت الدول المنتصرة، فرنسا وبريطانيا ما كان يسمى تركة الرجل المريض، أو تركة السلطنة الاستبدادية العثمانية، واليوم نقف للآسف، أمام مشهد مماثل عربياً حيث تفتح الأبواب لتقاسم تركة الأنظمة العربية التي كان ديدنها قهر مجتمعاتها، ولم تتردد أو تخجل، لتكريس سطوتها وفسادها، من إجهاض فرصاً جدية وثمينة لتنمية بلدانها وتطويرها، وتالياً نقف، أمام سلطات تزداد استبداداً وأنانية، وتستسهل لقاء ضمان تسلطها وامتيازاتها استجرار كل أشرار الأرض لتعيث فساداً في أوطاننا، ولنا في ما يحصل في ليبيا واليمن والعراق وسورية خير أمثلة، بينما يستمر التوغل والتغول على الحقوق العربية وتتنوع بصورة مذهلة القوى والأطراف الراغبة في تقاسم بلادنا وسرقة ثرواتها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها، لتشمل إلى جانب الدول العظمى، دولاً إقليمية كتركيا وإيران وإسرائيل.
من هذه قناة يمكن النظر مثلاً، إلى استمرار دور إيران في تعزيز نفوذها متوسلة الانقسام المذهبي وجعل مجتمعاتنا أسرى لتاريخ فتنة طائفية بغيضة، بين السنة والشيــعة، ثم إلى التغطية المشينة لسياسة الاستيطان والقمع الإسرائيلية التي تستمر في قهر الفلسطينيين وقضم المزيد من أراضيهم، وأيضاً إلى تعاون تركيا وإيران والعراق على وأد الحلم القومي الكردي، وإلى المنازعات السافرة التي تجرى على قدم وساق لتوزيع الحصص ومناطق النفوذ ولهدر دماء الشعوب وتضحياتها في سورية والعراق وليبيا، وأخيراً إلى الأيادي الخفية المستفيدة من نمو جماعات جهادية إرهابية، كـ «داعش» و «القاعدة»، وتحويلهما إلى شيطان رجيم، تسوغ في مواجهته مختلف أشكال التدخل والقمع لتمكين أنظمة الاستبداد وإجهاض تطلعات الشعوب نحو الحرية والرقي.
ثالثاً، لسورية القسط الأسوأ والأكثر إيلاماً من المشهد، والذي لا يقتصر على حالة الخراب وأعداد الضحايا والمعتقلين والمفقودين والمشردين المفتوحة على المزيد من التأزم والغموض والمعاناة، أو على استمرار الاستباحة غير المسبوقة لوطن، استسهلت أطراف دولية وإقليمية ومحلية، تخريبه وتوظيفه كورقة لتحسين الموقع واستنزاف الآخر، ولا يقتصر أيضاً، وعلى رغم تواتر المؤتمرات والمفاوضات من جنيف إلى آستانة إلى سوتشي، على صعوبة إن لم نقل استحالة تحقيق تسوية سياسية، مستقرة ومتوازنة، في ظل تعدد وتضارب مصالح الأطراف المؤثرة بالصراع السوري، بما هي صعوبة البدء بإعادة إعمار جدية وشاملة للبلاد تبدو أمامها إعادة الإعمار الهزيلة التي يروج لها النظام وحلفاؤه، أشبه بلعب أطفال، لكنه يصل إلى الأقسى والأصعب، إلى شجاعة الاعتراف بالهزيمة التي منيت بها ثورة السوريين وشعارات الحرية والكرامة، كعتبة لا غنى عنها للوقوف نقدياً على حقيقة ما جرى واستخلاص العبر والدروس، بما في ذلك تحمل المسؤولية، بعيداً عن ادعاءات المزايدين وأوهامهم، لتغذية الأسباب التي دعت الشعب السوري للانتفاض والثورة، ولتوسل مختلف أشكال التعاضد الإنساني والتواصل السياسي والثقافي مع المنكوبين، لإبقاء روح الأمل بالتغيير الديموقراطي متقدة، ولمحاصرة قوى الاستبداد والعدوان وتعرية ارتكاباتها، ما يفوت، في هذا الظرف المهين، على «المنتصرين» أو من يدعون الانتصار، الفرصة لتعميق هذه الهزيمة وتكريس تداعياتها المريرة.