محمد شاكر
ظهرت شمس «القدس» فكشفت الحقيقة ساطعة فى قلب نيويورك، عرف العالم أن ترامب يحاول أن يعيد للأذهان تغيير «الوجه الأمريكى القبيح»، استعاد منبر الأمم المتحدة مصداقيته، قالت الأمم المتحدة كلمتها وعبرت عن صحوتها، واستردت شرفها ومكانتها، ونسجت الأمم رغم اختلاف لهجتها ولغتها وثقافتها نسيج السلام، عرفت لحن الوئام، وجهت وارتفعت إلى مستوى الأحداث الجسام، قالت إن الأمم لن تعرف بعد اليوم لغة الاسترخاء والاستسلام، اعتمدت رؤيتها بعد أن كانت تعيش الأوهام، قالت حانت لحظة البسالة التاريخية بالفعل، انطلقت بعيدًا عن الشعارات والأحلام، صحوة البشرية كانت عاقلة وليست مجرد كلام.
إن الأسباب التى أدت إلى هدم (عصبة الأمم) لأنها لم تعد ملائمة للغة العصر وفارق السرعة بينهما وبين آمال وطموح الشعب، هى نفس أسباب طرح تطويرها لتصبح الأمم المتحدة، وتم التوقيع على ميثاقها فى سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة، وكان موقف مصر فى مداولات توقيع هذا الميثاق عام ١٩٤٥م، أنه أثبت أنها بعيدة النظر حيث تحفظت رغم الضجة التى قامت بها الولايات المتحدة لتؤكد للعالم من خلال مبادئ الرئيس ويلسون الأربعة عشر، أنها ستكون الحضن الدافئ لهذه المنظمة الوليدة، إلا أن الممارسات الأمريكية أثبتت أنها تحولت إلى (الفك المفترس) الذى وضع مبادئ الأمم المتحدة بأنيابها الحادة، وحولت المنظمة إلى إحدى الوكالات الإدارية التابعة للبنتاجون، هنا انقلب الحق إلى الباطل وتحول الميثاق إلى نص معطل وعاطل.
ومنذ ولادة الأمم المتحدة ومصر لم تغير موقفها رغم مبادئ ويلسون التى هزت العالم هزًا ومنحت الأمل إلى الشعوبب المظلومة بشىء من العدل، إلا أن أقطاب الدول الأربع الكبرى فى عام ١٩٤٩م، اجتمعوا ليعلنوا «ميثاق الأطلنطي» الذى يكفل الحريات الأربع، وأعلنوا فشل عصبة الأمم، وقالت مصر كلمتها رغم ظروفها، وأعلنت رؤيتها مؤكدة فى خطاب رسمى أن إخراج هذه المبادئ إلى حيز التطبيق العلمى سوف يستغرق وقتًا طويلًا وجهودًا متصلة، وأنها ترى أن هناك آمالًا تم إحياؤها باعتبارها الهدف الأسمى للهيئة الوليدة، وأعربت الحكومة عن صدمتها بعد علمها أن تكوين مجلس الأمن يتسم بالغرابة؛ فهو مكون من أحد عشر عضوًا، خمسة منهم دائمون منصوص عليهم بالاسم: إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وأضيفت إليهم فرنسا والصين الوطنية لا الشعبية أولًا باعتبارهما من الدول العظمى.
وكشفت عملية اختيار فرنسا عن مناورة سياسية غريبة، ونقول عنها ما أشبه الليلة بالبارحة؛ فإن فرنسا كان هناك طرفان يتجاذبانها، روسيا من ناحية اليسار حتى تتسلل وتخترق عن طريقها الحدود من برلين إلى فرنسا ثم إلى إسبانيا، ثم تنحرف منها إلى شمال أفريقيا إلى الحياة الدافئة، والطرف الآخر إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية تريدان فرنسا فى جانبهما، لكى تصنع سدًا منيعًا لهما أمام روسيا فلا تندفع إلى فرنسا ومنها إلى شمال غرب أوروبا، فالطرفان يغازلان فرنسا لذلك رقيت إلى مصاف الدول العظمى، إلى مقومات أخرى، ومنحت عضوية مجلس الأمن، وهى عضوية غالية الثمن، لها تكلفتها السياسية التى التزمت بها فرنسا وهى أن تكون قلعة للحريات والتعددية فيما عدا مواقف تصادمت مع تلك المبادئ ثم أعاد إليها شارل ديجول روح الأمة الفرنسية فعادت لها المصداقية لنشر مبادئ الحرية، وكان من ثمارها السياسية انتعاش الفرانكفونية، ودخلت حيز التنظيم من خلال المنظمة التى تولى إشرافها الفرانكفونى العظيم الدكتور بطرس بطرس غالى بعد أن أُجبر على ترك منصب الأمين العام للأمم المتحدة بفعل فاعل مع سبق الإصرار والترصد، والفاعل معروف وهو الأمريكى القبيح، عقابًا لأنه قال كلمة حق حول (قانا)، ونشطت قوات حفظ السلام فى عهده وارتدى زيهم العسكرى، لكن يبدو أن الولايات المتحدة لا يروق لها فلسفة هذه القوات الدولية فتحولت من حفظ سلام إلى حفظ سلامة أفرادها نتيجة حوادث القتل المتزايدة لهم، واعتبرت قواتها هى الجناح العسكرى للمنظمة الدولية مع تمثيل رمزى لباقى الدول لتضفى عليها صفة الدولية الكاذبة.
ومنذ إنشاء الأمم المتحدة فى فترة التكوين الأولى، طالبت مصر أن يخصص عدد أكبر من القاعدة ليكون من منصب الدول الصغيرة مع عدم المساس بالمزايا المقررة للأعضاء الدائمين، وتقدمت باقتراح لا يعرف كثير عنه شيئًا، وهو أن يكون هناك مقعدًا للجامعة العربية عندما كان عدد الأعضاء خمسين دولة فقط، لكن أمريكا ظهرت على حقيقتها بعد توقيع (عقد قران)، وتحولت من حامية الحريات إلى (سى السيد) وشرطى العالم، وأفسدت دور الجمعية العامة للأمم المتحدة، التى كانت يجب أن تكون بمثابة برلمان، أو مجلس الأمن يكون بمثابة مجلس وزراء العالم.
وكانت هناك عقبة قانونية أعتقد أنها موجودة حتى اليوم، وهى أن عصبة الأمم بعد فشلها تحولت إلى الأمم المتحدة باعتبارها (هيئة تضامن) ظهرت مشاكل لم تحل حتى الآن، ولم يتم الحسم الكامل للمركز القانونى للمعاهدات التى سبقت الأمم المتحدة التى أنيطت إلى (عصبة الأمم) اختصاصات تفسيرها، ولم يتم نسخها وإسناد الاختصاص للأمم المتحدة وهناك معاهدات تتعارض مع نظام الأمم المتحدة الأساسي، وكان مؤتمر سان فرانسيسكو لقيام الأمم المتحدة عبارة عن (خمسين مدرسًا) وجهوا إلى رأس اليابان ثم تغيرت الأصول، وبعد نضال الشعب اليابانى تم تصحيح هذا الموقف وأصبحت المدلـلة، واصطلاح الأمم المتحدة يختلف عن اصطلاح الدول المتحدة، فالأمم هى الأشمل لأنها هى الوعاء للدولة بكل مفرادتها لقوى السيادة الاجتماعية سواء فى التعددية العرقية أو الثقافية أو اللغة أو الأديان أو الألوان، كل هذه التعددية أصبحت فى حالة ذوبان داخل الأمة وليست بالضرورة داخل الدولة، فالأمم هى الأصل والدول هى الإطار السياسى فقط، لذلك فإن الأمم المتحدة لا تمثل الدول فقط، لكنها تمثل الأمم كما يدل عليه اسمها، لكن الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب أصدر أمرًا يترجم عن «جهل قيادي» بتهديد علنى موثق للدول التى لم تدخل بيت الطاعة الأمريكى فى قضية القدس، وتحدث بلغة (محدثى النعمة) بأنه سيحرم الذين أعلنوا التمرد والعصيان من «الصدقات» التى يوزعها على الدول، أى أنه يؤكد علنًا مبادئ رشوة الدول لكى يبيعوا ضمائرهم، فهى لهجة غريبة تسود المجتمع الدولى بعد سقوط «الكاريزمية المقدسة» للكاوبوى الأمريكى منذ خلعه العالم من كرسى المرجيحة السياسية فى تعريف أمور الكرة الأرضية.
ولتكن هذه فرصة لكى تنطلق بين الشعوب والمنظمات الأهلية، وتكون حركة المثقفين والنخبة أن يتحركوا بمبادرة شعبية تطالب بنقل الأمم المتحدة من أمريكا لتكون فى مكانها الطبيعى فى أوروبا، فقد يرشح البعض إيطاليا، هذا ممكن لكن هل تسمح ظروفها بتحمل هذه المسئولية، قد يرشح البعض «فيينا» ورغم أهمية المدينة إلا أن الرأى العام فى العالم العربى وغيره لا يعرف كثيرًا عنها، ربما أكثر من أغنية اسمها الشهير (ليالى الأنس فى فيينا)، وربما تكون عاصمة النور فرنسا الأكثر حظًا فى الحصول على دعم تلك الدعوة، ولنترك مبنى نيويورك لترامب، إما يحوّله إلى فندق يضم إلى (ترامب تاور) فى مانهاتن المجاورة لها، أو يتبرع به ليكون مركزًا للتجارب خاصة للأرانب والفئران.