إلى متى يبقى قيام دولة مستقرّة وقويّة في لبنان معلّقًا؟

2

ترتبط قيمة الدولة، على المدى الطويل، بقيمة الأفراد الذين يكوّنونها” (جون ستيوارت ميل).

الأب صلاح أبوجوده اليسوعي

أستاذ في جامعة القديس يوسف

 

انتهت أزمة الفراغ الرئاسيّ في لبنان عقب تغيير مذهل في موازين القوى الجيوسياسيّة في الشرق الأوسط، بدأت بوادره بعد أحداث 7 تشرين الأوّل 2023، وتميّز بإضعاف تدريجيّ لمحور المقاومة الذي تقوده الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، وأدّى، في لبنان، إلى نتائج إنسانيّة واقتصاديّة قاسية نتيجة المواجهة العسكريّة بين حزب الله وإسرائيل، وفي المنطقة، إلى سقوط نظام الرئيس الأسد في سوريا، وتغيير الوضع الميدانيّ والديموغرافيّ في غزّة على نحوٍ قضى على نفوذ حركة حماس إلى حدّ كبير. غير أنّ نتائج هذه التغييرات لم تتوقّف في لبنان على انتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهوريّة، بل إلى عودة سياسيّة قويّة لبعض الدول العربيّة وفي طليعتها المملكة العربيّة السعوديّة، واطّلاع الولايات المتّحدة الأميركيّة وفرنسا بدور أمنيّ رائد في إطار اتّفاق وقف إطلاق النّار في جنوب لبنان. ويرى العديد من المراقبين المحليّين والأجانب أنّ مجمل هذه الأمور تُدخل لبنان في مرحلة جديدة يخلق النفوذُ الخارجيّ العربيّ والأجنبيّ فيها فرصةً فعليّة لنهوض المؤسّسات العامّة والخاصّة، وإنعاش الاقتصاد.

 

ولكن يبدو أنّ معالم الساحة السياسيّة الداخليّة تُرسم حول معسكرَين أساسيَّين: من جهة، القوى المعارضة حزب الله التي تبدو مؤيّدة السلطة الجديدة، ومن جهة ثانية الثنائيّ الشيعيّ، من دون إهمال التيّارات التي تبقى في موقع ضبابيّ يسمح لها بالتموضع وفقًا لمصالحها. وبوجه عامّ، تتّخذ قوى المعسكر الأوّل موقفًا مؤثرًا انطلاقة جديدة للحكم على أساس إعادة إنعاش روابط لبنان بالبلاد العربيّة الصديقة، وإعطاء تطبيق الدستور وعمل القضاء الأولويّة، فضلاً عن وضع خطط النهوض الاقتصاديّ. ويأتي هذا الموقف بمثابة ردّ فعل على ما اعتُبر لفترة طويلة سياسة الأمر الواقع التي فرضها الثنائيّ الشيعيّ وحلفاؤه، وتميّزت بتعطيل المؤسّسات الدستوريّة وعمل القضاء وإضعاف المؤسّسات الأمنيّة، إضافة إلى التسبّب بالأزمات الاقتصاديّة، وربط لبنان بمحور خارجيّ لا يتوافق وتركيبة لبنان التي تفترض تحاشي الانخراط في الصراعات الإقليميّة على قدر الإمكان.

 

وفي المقابل، يرفع معسكر الثنائيّ الشيعيّ راية الميثاقيّة بصفتها أساسًا لا يمكن تجاهله في انطلاقة الحكم الجديد. وهذه حجّة طالما لجأت إليها أطراف في المعسكر الأوّل في زمن الوصاية السوريّة، ومن ثمّ في ظلّ المجادلات المألوفة بشأن حقوق الطوائف، واتّباع مبدأ الثنائيّة أو المثالثة في تفسير الميثاق الوطنيّ. وبصرف النظر عن الوجهة التي سيتّخذها تطوّر المشهد الداخليّ – أي هل ستشهد البلاد استقطابًا تصاعديًّا بين المعسكرين، أم سيتمّ التوصّل إلى حلٍّ وسطيّ، وما سيكون وقع العوامل الخارجيّة في هذا الصدد – فإنّه من الثابت أنّ لبنان سيبقى قائمًا على تركيبة غير ثابتة، يمكن أن تتغيّر مع أيّ تغيير إقليميّ مؤثِّر. وانطلاقًا من هذا الاستنتاج، تفرض مسألةُ نضج القادة اللبنانيّين السياسيّ نفسها بقوّة، ما دام تجاوز ديناميّات السياسة الداخليّة القابلة لإغراق البلاد في دوامة أزمات سياسيّة ووجوديّة يتعلّق عليها.

يُعرَّف نضج السياسيين اليوم في البلدان الديمقراطية بقدرة هؤلاء السياسيين على اتخاذ قرارات سياسية سليمة وفاعلة في الوقت المناسب، ضمن إطار الدستور والقوانين والمبادئ الإنسانيّة المعاصرة، بحيث يمكن عناصر هذا الإطار أن تحكم على صوابيّة تلك القرارات. ومن الضروريّ الإشارة إلى أنّ المبادئ الإنسانيّة المعاصرة والديموقراطيّة تضع الإنسان بصفته فردًا في صميم اهتماماتها، على أساس المساواة بين الأفراد وحريّتهم وكرامتهم المتأصّلة.

تنصّ المادّتان “ب” و”ج” من مقدّمة الدستور اللبنانيّ على التزام جليّ بالمبادئ الديموقراطيّة والإنسانيّة. فقد أتى في المادّة “ب”: “لبنان عربيّ الهویّة والانتماء، وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربیّة وملتزم مواثیقها، كما هو عضو مؤسّس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثیقها والإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، وتجسّد الدولة هذه المبادئ في جمیع الحقوق والمجالات دون استثناء”. وأتى في المادّة “ج”: “لبنان جمهوریّة دیمقراطیّة برلمانیّة، تقوم على احترام الحریات العامّة، وفي طلیعتها حریّة الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعیّة والمساواة في الحقوق والواجبات بین جمیع المواطنین دون تمایز أو تفضیل”. وباختصار، يوفِّر الدستور الإطار الكامل الذي يسمح بتعاطي العمل السياسيّ بنضجٍ يتوافق ومتطلّبات الديموقراطيّة والمبادئ الإنسانيّة. ولكن لماذا لم يسلك قادتُنا إلى اليوم طريق النضج السياسيّ؟

تقدم المادة “ي” من مقدّمة الدستور المذكور آنفًا إجابة واضحة: “لا شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”. ومن المسلّم به أنّ هذا الميثاق يُفهم بتعايش الطوائف المختلفة، ولكنّ إشكاليّاته تبدو بلا نهاية عندما يتّصل الأمر بترجمته على مستوى تقاسم السلطة واتّخاذ القرارات. ولكن لنضع هذه المسألة جانبًا، لنركّز على الموضوع الأساسيّ، أي “النضج السياسيّ”.

تكشف البنية الميثاقيّة، في نهاية الأمر، عن غياب مفهوم الــ “نحن” الذي يتجاوز الخصوصيّات المذهبيّة والطائفيّة، أو غياب مشروع وطنيّ قادر على تجاوز تلك الخصوصيّات من دون إنكارها، بل يسمو بها في إطار رؤية وطنيّة تلتقي والمبادئ الإنسانيّة والديموقراطيّة على السواء. وفي الواقع، إنّ نزعة القادة على الدفاع أوَّلاً عن حقوق طوائفهم، يمنع التوصّل إلى تطوير رؤية وطنيّة جامعة. وغياب مثل هذه الرؤية يحول دون اجتماع اللبنانيّين على دولة سياديّة قويّة، ما دامت القرارات تُتخذ في ظلّ جوّ تسوده العداوات، ويُضعف إمكانيّة ولادة شعور وطنيّ مشترك يُعبِّر عن الانتماء إلى الدولة.

إنّ كسر البنية النيو-إقطاعيّة الطائفيّة الطابع يفتح طريق النضج السياسيّ، وهذه عمليّة تتطلّب بداية الإعلان الجريء من قبل السلطة بأنّ الميثاق الوطنيّ ذو طبيعة مؤقتة وليست دائمة، لأنّه يمنع العبور إلى دولة المواطنيّة والديموقراطيّة التي يطمح إليها بالعمق جميع اللبنانيّين.

التعليقات معطلة.