حنا صالح
هدف البيان الوزاري للحكومة اللبنانية، الذي أعطى أولوية للصياغة، إلى قبوله من الشركاء السياسيين، بتناوله العناوين – القضايا من دون التزام المساءلة. فجاء باهتاً مهملاً الإشارة إلى زمن الفساد والتعدي على حقوق المواطنين، وبارداً حيال القضايا الساخنة التي تشغل الأكثرية، بتضمنه إشارة سريعة إلى قضيتي: نهب الودائع، جني أعمار الناس، وكذلك التفجير الهيولي لمرفأ بيروت. قضيتا البلد وردت الإشارة لهما في سياق وعدٍ عام، لا يحمل الالتزام الكامل بتحقيق العدالة. فقال وعد البيان الوزاري إنه «لا بد من الإسراع في إجراء التعيينات والمناقلات والتشكيلات القضائية والحؤول دون منع أو تأخير عمل المحققين، خصوصاً في قضية انفجار مرفأ بيروت وقضايا الفساد المالي والمصرفي واستكمال التدقيق المحاسبي والجنائي».
هنا يتضح أنه بمقابل الالتزام بقضية إعادة الإعمار، وهي قضية لا تقبل الجدل لأنها من جهة ممر إجباري لضمان العودة الشاملة المستدامة، ومن الجهة الأخرى يتوقف على قيام السلطة بإنجازها منع «حزب الله» من بناء مظلومية لا أساس لها، تغطي مسؤوليته عن الدمار وتسببه بمجالس عزاء في كل بيت جنوبي. فإنه لا تعهد بالتزام إتمام التحقيق وحمايته، في أخطر قضيتين سحقتا اللبنانيين وأذلَّتاهم، ولا تعهد بعدم تغييب محاسبة المسؤولين عن المنهبة وتفجير المرفأ، ومحاسبة معرقلي التحقيق في القضيتين.
يقول الرئيس نواف سلام إن قياسات رأي جادة أظهرت أن 70 في المائة من الشباب (نخب وكفاءات) يخططون للهجرة، ويرى أن على السلطة أن تعمل لتغيير هذا الاتجاه، لكن كيف وبأي رؤى وقدرات؟ فلا وضوح. لكن بعض ما تبرزه الرؤية الحكومية مقلق لأنه لا يعطي أولوية للمساءلة كمدخلٍ لمعالجة انهيارات مبرمجة أخذت البلد إلى الجحيم. كما أن بعض ما يطرحه عدد من الوزراء مريب، إذ لم يكتفوا بعدم تقديم قراءة عادلة للأزمة المالية والمصرفية والدور القيادي فيها لمجموعة مرابين، ينحازون لطروحات مصرف لبنان والكارتل المصرفي في تذويب الودائع، أي شطبها، من خلال تعاميم لا قانونية تُحمِّل أصحاب الودائع الصغيرة وزر المنهبة، ومن ناحية أخرى يتجاهلون واقع أن نهب الودائع وتهريبها اللذين يثيران جدلاً داخلياً باتا العنوان الرئيسي أمام القضاء الأوروبي.
بهذا السياق، يبدو الجامع بين البيان الوزاري ومواقف بعض الوزراء تغييب مسؤولية مجموعة بنكرجية مرابين دمروا الثقة بالمصارف، والأخطر التعامي عن مبدأ المطالبة باستعادة الأموال المنهوبة المحولة إلى الخارج. ويتمدد هذا المنحى ليطول حق بيروت والضحايا بالعدالة، كما حق الضحايا الأحياء ممن أصيبوا بإعاقات دائمة إلى تعويض المتضررين، وكذلك حق ضحايا التعسف والاستبداد خلال «ثورة تشرين» 2019.
يقول الرئيس القاضي رالف رياشي إن إحالة قضية تفجير المرفأ يوم 4 أغسطس (آب) 2020 إلى المجلس العدلي جاءت «لتوخي السرعة في تقرير خاتمة قضائية لواحدة من كبرى الجرائم التي استهدفت أمن الدولة». لا شك هنا أن الرئيس القاضي نواف سلام مدرك أن التدخلات السياسية فرضت تنحية المحقق العدلي فادي صوان، في فبراير (شباط) 2021، لأنه تجرّأ وادعى على رئيس الحكومة و3 وزراء سابقين بتهمة «الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة وجرح مئات الأشخاص». ويعرف كيف استهدفت حياة القاضي الجديد طارق البيطار، من خلال التهديد بـ«قبعه» لرفضه مساراً «قضائياً» أملاه «حزب الله» (…)، كذلك التدخلات من خلال دعاوى «الرد» و«كف اليد»، من المدعى عليهم بجناية «القصد الاحتمالي بالقتل، فأفضت إلى وقف التحقيق في ديسمبر (كانون الأول) 2021، لمنع صدور القرار الاتهامي قبل الانتخابات النيابية.
ومعروف أن جهات إنسانية حقوقية وقضائية دولية أدانت مراراً تعطيل التحقيق العدلي وطالبت بالعدالة. كما هالها قيام مدعي عام التمييز السابق غسان عويدات، المدعى عليه بجريمة المرفأ، بتعطيل التحقيق نهائياً في يناير (كانون الثاني) 2023، عندما تجاوز حد القانون وادعى على البيطار ومنعه من السفر وتجاوز صلاحيات لصيقة بقاضي التحقيق، فأفرج عن المشتبه بهم ممن كانوا رهن الاحتجاز على ذمة التحقيق. كما أمر الضابطة العدلية بعدم تنفيذ قرارات المحقق العدلي (…) واليوم مع استئناف التحقيق، يرفض النائب العام التمييزي بالوكالة جمال الحجار، التراجع عن قرارات سلفه بمنع موظفي النيابة العامة من تسلم أي مستند من القاضي البيطار، بعدما فشل في محاولات «إقناعه» بفصل ملاحقة الوزراء السابقين عن بقية المدعى عليهم بحجة أن ملاحقتهم محصورة بالمجلس النيابي!
مرّ 62 شهراً على الانهيار الكبير، و55 شهراً على التفجير الهيولي لبيروت، ولتاريخه ما من متهم في الجرائم المالية وإفقار البلد وإذلال الناس، وما من متهم بترميد قلب بيروت وأخطر تروما مستمرة نتيجة تفخيخ أسرّة المواطنين بنيترات الأمونيوم المدمرة. هناك كثير من الحرص على نجاح الحكومة وأن تحوز الثقة الشعبية فينجو البلد ويتعافى. والممر الإجباري لانطلاقة صحيحة واعدة يكون بالتزام المساءلة المحاسبة تحقيقاً للعدالة، فهي الاختبار الحقيقي والمقياس الذي تتكرس من خلاله الثقة بالحكومة أو تنعدم.