مقالات

د. إبراهيم صحراوي 

عن حرية الرأى وصدْم الشعور الجمعي مرّة أخرى

أرانى مضطرّا إلى العودة مرّة أخرى إلى قضية احترام حرية الرأى واحترام الشعور الجمعى (وكذا الفردى بطبيعة الحال) وحِدّة التراشق ترتفع بوتيرة عالية بين مختلف التيارات والنخب والشرائح الثقافية وضيقها بعضها ببعض، مع الاصطفاف التلقائى للعامة إلى هذا الجانب أو ذاك مثلما هو حاصلٌ عندنا فى الجزائر إثر الفعل الأحمق بتشويه تمثال عين الفوارة فى مدينة (سطيف شرق الجزائر) وكذا التصريحات الاستفزازية الإثارية المتهوِّرة التى تأتى من هنا وهناك فى وسائل الإعلام أو وسائط التواصل الاجتماعى مهاجمة ومُراجِعة ومُشكِّكة، لتُظهر مرَّة أخرى كم نحن بعيدون فى الشرق الإسلامى عامة وفى العالم العربى خاصَّة عن حدود معينة تقف عندها النُّخب المختلفة فى تناولها لقضايا المجتمع، سيما ما تعلَّق من هذه القضايا بثوابت الدين والشخصية الوطنية والعلاقة بين الأعراق والجماعات المختلفة المُكوِّنة للمجتمعات العربية وخصوصياتها الثقافية والعقلانية وحرية الرأى والتفكير ومحاربة الجهل والتطرُّف والبِدع والخرافة.
تأتى هذه التصريحات لتثير مرة أخرى التناقض «النائم» بين المواقف المُتَّخَذَة باسم حرية الرأى من جهة وبين تلك المُتَّخذة باسم حرية المُعتقد وضرورة الدفاع عن قدسيته ومظاهره من جهة أخرى والحقّ فى رؤية قبول الأغلبية للخصوصية الثقافية للأقليات من جهة ثالثة. هو تناقض يبرز فى التصادم الذى يحدُث من حين لآخر فى العالم العربى عندما تصدِمُ حريةُ الرأى «المبالغة» أو المطالبات الثقافية «المُزايدةُ» (التى تتطور إلى سياسية مع الوقت) الشعورَ الجمعى العام إذْ تسخر من شعيرة أو تُنقص من مُقدَّس أو تُهدِّد بانفصال وما يُقابلها من تكفير وهجوم وتخوين قد يتطور أحيانا إلى هدر للدم. وقد رأينا كيف تقوم الدنيا ولا تقعد فى مستويات عِدَّة شعبية ورسمية، ثقافية فكرية ودينية بفعل آراء غالبا ما تتّصل بالدين كالحجاب أو الانتماء مثلا. والحقيقة أن هذه الثورة (إن جاز التعبير) لها ما يُبرِّرها كون الموضوع حسَّاسا والرأى (قد يكون) صادرا من جهات تنتمى إلى مراجع فكرية ثقافية نُخَبية.
حرية الرأى هى إحدى الحقوق الأساسية للفرد لا نقاش فى هذا. لكن احترام المُعتقَد وقدسيته حق أساسى هو أيضا ولا يجوز بأى حال من الأحوال مسُّه أو العبث به. والشيء نفسه واجب أيضا للخصوصيات الثقافية لمكونات الأمّة. ومنه تكون مشكلتنا فى العالم العربى هي: كيف السبيل إلى الحدِّ من ديكتاتورية هذه الحقَّوق الأساسية وتعسُّفها بما يضمن عدم تجاوزَها لحدود علاقتها فيما بينها؟ ما الذى ينبغى عمله حتى لا يُستهزأَ بالدين ويُسخر من بعض شعائره مهما كان السبب من جهة، أو يُبخَس للأقليات الثقافية الحدُّ الأدنى ممّا تعتقده حقا أساسيا، وحتى لا تُعطَّلَ حرية الرأى تحت أى غطاء كان من جهة أخرى؟ وبعبارة أخرى: كيف السبيل إلى ما يجعل المؤسَّسة الدينية الرسمية والشعبية لا تضيق بالآراء التى يُطلقها بعض المثقَّفين والمفكِّرين وبعض السَّاسة والفنانين ووجوه المجتمع من المُستغربين (والحداثيين؟) خصوصا، وبالتالى لا تؤلِّب الرأى العام والشعور الدينى الجمعيِّ ضدَّ هذه التصريحات، وفى الوقت نفسه يجعل الأوساط العلمانية و(الحداثيين) والمُستغربين (الليبراليين) لا يضيقون بالدين وشعائره وبعض الممارسات المُرتبطة به؟
مسألة احترام الكتب السماوية وآخرها كتاب الله: القرآن الكريم، والأنبياء والرُّسُل وخاتمهم سيِّدنا محمّد صلّى عليه وسلّم، وسنّتَه وسيرتَه وصحابتَه والحجاب وما يتّصل به من حشمة وحسنَ أخلاق عمومية (ظاهريا على الأقلّ) مثل مسائل أخرى فى ديننا الإسلامى مسألة أساسية. ليست مُجرَّد مظهر تاريخيٍّ مُرتبط بمرحلة مُعينة، أو زيٍّ يصلح لفترة ولا يصلُح لأخرى ويليق بمكان ولا يليق بمكان آخر. الحجاب مثلا شعيرة أساسية من شعائر الدين لا يجوز التنازل عنها أو تعطيلها. قد نختلف فى شكلها لكن لن نختلف من دون شكٍّ فى إلزاميتها.
إن تصادم المواقف ليس حتمية لا مفرَّ منها، إذْ يمكن أن تتعايش مواقفنا ولو كانت متناقضة بقليل من تبادل الاحترام وقبول الآخر كما هو الحال فى الغرب. العلمانى الغربى مثلا لا يحارب الدين أو ينتقص من قدره مع أنه يرفضه ويبتعد عنه. ورجال الدين (والمتديِّنون المغالون) لا يهاجمون العلمانيين ولا يتوعَّدونهم بالويل والثبور وعظائم الأمور مثلما هو حاصل عندنا من الطرفين. إذْ لا يكفُّ العلمانيون فى عالمنا العربى عن مهاجمة الدين والسخرية منه ومن أتباعه ومن علامات التدين الظاهرة كالزى والمظهر عموما، فيثيرون هؤلاء ويحصل ما يحصل من تطرف وتشنُّجٍ يصل إلى حدِّ إصدار الفتاوى بالردّة والكفر وما يترتَّب عليها من مواجهة يعتبر معها كلُّ طرف وجودَه أمرا مستحيلا مع وجود الآخر. وهو أمر يُظهر لنا كم تتنافر النُّخبُ عندنا ويرفض بعضُها بعضا.