حدود الفكر وحدود القوّة

4

أنطوان الدويهي

أستاذ جامعي لبناني

يُفاجَأ مُتابع تاريخ الأفكار في الغرب بما يصدر عن الرئيس الأميركي دونالد ترمب من مقولات ومواقف. هل يكفي وصول رجل واحد إلى سدّة الحكم، وإن في الدولة الأقوى، ليحدث هذا الانقلاب الشامل في الخطاب والأفعال؟ سواء كانت مبادرات ترمب تهويلية أم هادفة للتنفيذ، فهي تطيح بالمفاهيم الأساسية التي كرّسها الفكر الغربي منذ انتصار الديمقراطيات الليبرالية على النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والقومية اليابانية المتطرّفة في الحرب العالمية الثانية، قبل ثمانين عاماً. وذلك الانتصار، الذي كان للاتحاد السوفياتي دوره في تحقيقه على الجبهة الشرقية، كلّف القارّة الأوروبية وبعض العالم المنضوي في الحرب أكثر من ستين مليون قتيل، من العسكريين والمدنيين، ودماراً هائلاً يفوق الوصف.

حين يعلن الرئيس الأميركي، في ما يعلنه، رغبته في تهجير فلسطينيي غزة من أرضهم، وفرض توطينهم على مصر والأردن بقوة المساعدات المالية الأميركية المقدّمة للبلدين العربيين، والقفز فوق أوكرانيا ومجمل أوروبا لإجراء مقايضة مع الروس عليهما وفقاً لضرورات استراتيجية أميركية بحتة، والمطالبة بثروات أوكرانيا من المعادن النادرة لقاء ما قدّمته لها الولايات المتحدة من دعم مالي وعسكري، والتهديد بالسيطرة على قناة بنما وتغيير اسمها، وتهديد المكسيك في وحدة وسلامة أراضيها وتغيير اسم خليجها، والتهديد باستباحة كندا، والانسحاب من معاهدة باريس الدولية للبيئة، ومن «منظمة الصحة العالمية»، وربما بعد ذلك من «منظمة الأمم المتحدة»، من يدري، فماذا يكون بقي من مبادئ الفكر الغربي؟

هذه المقولات -سواء هدفت إلى التهويل أم التنفيذ- فهي تستند، مباشرةً أم ضمناً، إلى القوة، وليس إلى الفكر، القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية. وهي تطيح، في ما تطيحه، مبادئ أساسية في الفكر الغربي المعاصر، لا سيما حق الشعوب في تقرير مصيرها، ووعي الجذور والمسارات التاريخية للمسائل والأزمات الكبرى، والتمييز بين المعتدي والمعتدى عليه، ومساعدة الدول المتطورة للدول النامية في مواجهة مشكلاتها المصيرية، ومعالجة المخاطر البيئية المتعاظمة في العالم، وتضامن «العالم الحرّ»، في المفهوم الغربي للكلمة، لمواجهة الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية ونشر الديمقراطية… وهذا الفكر الغربي وأشكال الحياة التي يمثلها، وليس القوة الحربية، هي التي حققت للغرب تفكّك الاتحاد السوفياتي من الداخل، وانهيار المعسكر الاشتراكي، وسقوط الآيديولوجيا الماركسية البالغة النفوذ في العالم، وهي الانتصارات الغربية الكبرى الوحيدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

لكن «العاصفة الترمبية»، في وجهتها القومية المتشدّدة، لم تخرج من العدم. وهي لم تكن لتحقق هذا الانتصار الانتخابي الكبير لولا التطرّف المقابل في منحى الحزب الديمقراطي الأميركي، الموضوع تحت «عباءة أوباما» منذ سنين طوال، الذي أخاف الكثيرين. هكذا وصلت المبارزة بين وجهي الغرب، القومي والأممي، إلى أقصاها. ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في فرنسا وإيطاليا وألمانيا ومجمل أوروبا أيضاً، وهي آخذة في التفاعل لتقرير مسار الغرب ومصيره وعلاقته بالعالم في القرن الحادي والعشرين. وهذا الصراع، هو في جوهره، حول طبيعة الغرب وهويته. من هنا خطورته وعمق نتائجه الداخلية والخارجية.

بين اليسار الغربي المتشدد واتجاه «الووكية» (اليقظة) من جهة، والترمبية من جهة أخرى، هوّة يستحيل ردمها. من جهة، هو الغرب الأممي، الفاتح أبوابه على مصاريعها لاستقبال مهاجري العالم ومهجّريه، كون الأرض هي لمن يقصدها ويقيم فيها. وكما أن الهويّة متعددة الأطياف والألوان بلا حدود، هكذا الثقافة أيضاً بلا حدود، يمكن في ضوئها تحويل الثقافة الفرنسية ثقافة «كريولية»، نسبة إلى أرخبيل الأنتيل في المحيط الهندي وجزر موريس وسواها. وما يصحّ على فرنسا يصحّ على سائر الغرب. يرافق ذلك الذهاب في الحريات الفردية إلى أقصاها، ابتداء من تكريس المثلية في الزواج والبنوّة، وصولاً إلى الحق في تغيير الجنس. فضلاً عن الحملة لإزالة جميع التماثيل المجسّدة إنجازات «الرجل الأبيض»، من يوليوس قيصر إلى نابليون بونابرت.

… من الجهة الأخرى، يعلن إيلون ماسك أن الثقافة «الووكية» قتلت ابنه، بالإشارة إلى أحد أبنائه الذي حوّل نفسه عن طريق الجراحة من ذكر لأنثى. ويعمل ترمب على ترحيل ملايين المهاجرين غير النظاميين، وفي ذهنه استكمال السور الفاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك لمنع الهجرة، والحفاظ على بنية الأسرة التقليدية واحترام ثنائية الرجل والمرأة، وأمور كثيرة أخرى في الهوية والثقافة في المنحى نفسه… والصراع بين الغرب القومي والغرب الأممي مستعر في كل مكان. وآخر تجلياته فوز الاتجاه القومي المحافظ، وتقدّم الاتجاه القومي المتشدد في ألمانيا.

التعليقات معطلة.