الإسلام السياسي ابدع في تأسيس “ثقافة ودولة التاهو”، حيث تحوّلت الأحلام من بناء مستقبل زاهر إلى امتلاك سيارة فارهة، ومن تحصيل العلم إلى استعراض الثراء الزائف. هذه هي نتيجة سنوات من حكم الإسلاميين، الذين لم يتركوا لنا إسلامًا حقيقيًا ولا سياسة رشيدة، بل أنتجوا طبقة جديدة من الفاسدين الذين يرتدون عباءة الدين نهارًا ويتقنون فن توزيع “الهدايا” لشراء الولاءات ليلًا.
في الماضي، كان الإسلاميون يهاجمون “التبرّج والسفور”، ويحذرون من الفساد الأخلاقي، لكنهم اليوم أصبحوا رعاة رسميين لمهرجانات الفخامة المزيفة، حيث تُمنح سيارات “التاهو” و”المرسيدس” و”جي كلاس” كأوسمة لأولئك الذين يتقنون لعب أدوار “الخدمة الخاصة”! أما الفتيات الطموحات اللاتي حلمن يومًا بأن يصبحن طبيبات أو مهندسات، فقد وجدن أنفسهن في زمن تُقاس فيه القيمة الاجتماعية بحجم السيارة التي يقدنها، لا بمستوى تعليمهن أو إنجازاتهن.
إسلاميون في خدمة الفساد!
حين استلم الإسلام السياسي مقاليد الحكم، بشّر الناس بالعدالة والعيش الكريم، فإذا بالعدالة تصبح حكرًا على من ينتمي إلى الأحزاب الحاكمة، والعيش الكريم لا يتوفر إلا لمن تباركت أسماؤهم في قوائم التعيينات الحزبية أو ضمن شبكات الفساد الاقتصادي. تحول الدين إلى غطاء لنهب المال العام، وأصبحت الفتاوى تُفصَّل على مقاس أصحاب المناصب، حتى بات الفساد محميًا بشرعية دينية زائفة.
المفارقة أن دعاة “الإصلاح الديني”، الذين ملأوا الفضائيات بخطاباتهم عن الزهد والتقوى، هم أنفسهم الذين يتجولون اليوم بسيارات الدفع الرباعي الفاخرة، ويتحدثون عن التقوى من داخل قصورهم المشيدة بمال السحت الحرام! لا عجب إذن أن تتحول السيارات الفاخرة إلى معيار جديد للمكانة الاجتماعية، وأن يصبح الطموح الوحيد للكثيرين هو الدخول في “دائرة النفوذ” للحصول على نصيبهم من الكعكة.
من الحلم بالمستقبل إلى الهوس بالمظاهر
في العقود الماضية، كانت الأحلام تتعلق بالنجاح المهني والتعليمي، وكان الشاب أو الشابة يتطلعان إلى دراسة الطب أو الهندسة أو الإعلام ليصنعا مستقبلًا مشرقًا لأنفسهما. أما اليوم، فقد تبدلت الطموحات تحت تأثير ثقافة الاستهلاك السريع والمظاهر الفارغة، فأصبحت سيارة “التاهو” حلمًا، وأصبحت الحقائب الفاخرة وساعات الماركات هي الأوسمة التي تحدد مكانة الفرد في المجتمع.
ليس هذا التحول صدفة، بل هو نتيجة مباشرة لنظام سياسي واقتصادي فاسد، جعل من المال والسلطة الطريق الوحيد للنجاح، وحوّل الدولة إلى ساحة لنهب الثروات، حيث الفاسدون يحتكرون فرص العيش الكريم، بينما يُترك المواطن العادي يصارع الفقر والتهميش.
حين تصبح الفخامة وسيلة للاتهام!
المثير للسخرية أن اقتناء سيارة فاخرة لم يعد مجرد مظهر من مظاهر الرفاهية، بل أصبح علامة استفهام تفتح باب الاتهامات. فمن أين جاءت هذه الفتاة بسيارتها الفارهة؟ هل هي هدية من مسؤول فاسد؟ أم نتيجة لعلاقة مشبوهة؟ هكذا أصبح المجتمع يُعرّف النجاح، لا بالمجهود والعمل، بل بمدى قرب الشخص من شبكة الفساد المستشري.
أما النساء اللواتي يشغلن مناصب مرموقة مثل أساتذة الجامعات أو القاضيات أو الوزيرات، فهن خارج هذا التصنيف، لأن نجاحهن له أسس واضحة. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أولئك الذين يبحثون عن الثروة السريعة عبر الطرق الملتوية، ويجدون في “ثقافة التاهو” بوابة عبور إلى عالم النفوذ والجاه الزائف.
متى ننتقل من “ثقافة التاهو” إلى “ثقافة الدولة”؟
بالمحصلة، لا عجب أن تتوه الأحلام في عصر “التاهو”، فحين يسود الجهل، يصبح المال الوسيلة الوحيدة لشراء المكانة، وحين تحكم العصابات بثوب الدين، يصبح الفساد عنوان المرحلة.
لكن يبقى السؤال الأهم: متى ننتقل من “ثقافة التاهو” إلى “ثقافة الدولة”؟ متى يعود الطموح إلى مكانه الصحيح، حيث يكون العلم والعمل هما طريق النجاح، وليس المحسوبية والفساد؟ متى يكون معيار التقدير الاجتماعي هو الإنجاز لا الاستعراض؟
ربما تكون الإجابة في يد الجيل القادم، ذلك الجيل الذي أدرك حجم الخراب الذي جلبه الإسلام السياسي، وبدأ يبحث عن طريق جديد يعيد العراق إلى موقعه الطبيعي كدولة تحكمها القوانين والمؤسسات، لا صفقات الفساد والمظاهر الكاذبة.