الإرهاب وتلوث الهوية المصرية

1

د. عصمت نصار
 
لم يكن تسلل الفكر الوهابى إلى البنية الثقافية المصرية هو العامل الوحيد لتلوث الخطاب الديني، بل كانت هناك عدة عوامل ساعدت على تحول العقل الجمعى المصرى من التسامح العقدى إلى التطرف والتعصب ضد الأغيار من جهة، وتكفير المخالفين من جهة ثانية، وذيوع مقولة أن الإسلام فى خطر من جهة ثالثة. نذكر منها طعون بعض المستشرقين المتعصبين لليهودية أو المسيحية أو العلمانية ضد الإسلام وشخص النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتشكيكهم فى ثوابت الهوية واجتذابهم طلاب البعثات من المصريين لترويج آرائهم. وقد اُتهمت العديد من الكتابات الليبرالية بأنها صنيعة الغرب وترمى إلى تزييف الهوية الإسلامية المصرية مثل الدعوى لنقض اللغة العربية، والعناية باللغة العامية المصرية وتاريخ الفراعنة، والكتابة بالحروف اللاتينية، وفصل الدين عن السياسة، وإعمال العقل النقدى فى كتب السيرة والأحاديث والقصص الديني، والترويج للوحدة العربية على أسس علمانية، عوضًا عن الخلافة والحديث عن حرية الفكر والعقيدة وحقوق المرأة وسلطة الشيوخ الجامدين واعتبار آرائهم دربًا من دروب الكهنوت الذى يجب التخلص منه. وقد ترتب على ذلك ظهور العديد من المساجلات بين المحافظين الرجعيين من شيوخ الأزهر والسلفيين الجدد والإخوان المسلمين من جهة، والليبراليين من تلاميذ لطفى السيد (حزب الأمة) والماركسيين والمجترئين من المتشيعين للغرب وفلسفته المادية والجمعيات الإلحادية من جهة أخرى، وذلك على صفحات: (الفتح ـ الأسد الإسلامى ـ الإخوان المسلمون ـ الإسلام ـ البلاغ ـ الجامعة الإسلامية ـ جماعة المنقول والمعقول ـ الجهاد ـ الجهاد الإسلامى ـ حضارة الإسلام ـ الحق ـ الدستور ـ الدعوى ـ الرابطة الإسلامية ـ صوت الحق ـ الضياء ـ العالم الإسلامى ـ لواء الإسلام ـ نور الإسلام ـ الهداية ـ الهداية الإسلامية ـ هدى الإسلام ـ الوحدة الإسلامية ـ مصباح الشرق ـ محمد فريد وجدي الإمام ـ الجريدة الماسونية ـ الاتحاد الإسرائيلى ـ إسرائيل ـ الأخبار الماسونية ـ الإخاء الماسونية ـ الجديد ـ الديموقراطية ـ الرأى العام ـ رسالة الإسلام ـ الرسالة ـ السياسة الأسبوعية ـ الفلسفة ـ المستقبل ـ المقطم ـ المؤيد ـ السفور ـ العصور ـ المقتطف ـ الكاتب ـ الهلال).
ويتلخص مشروع خطاب المحافظين فى مقولة العودة إلى الإسلام والانتصار للفرقة الناجية والجهاد ضد الملحدين والمستشرقين والمستعمرين وأذنابهم. وقد صرح بذلك حسن البنا فى مقالاته فى فترة الثلاثينيات من القرن الماضي.
أما الفريق الثانى فقد تبنى عدة شعارات أهمها: تقديم المعقول على المنقول، الفصل بين العلم والكتب المقدسة، نقد السلطة الدينية، الحرية، التقدم، الحياة العصرية. وقد تأثر شبيبة المثقفين الذين ينتمون إلى أصول ريفية بأحاديث جماعة المحافظين؛ أما ساكنو المدن، والأقباط، ورواد المدارس الحديثة، وخريجو المدارس الأجنبية، والعائدون من البعثات العلمية، وأبناء الطبقة الأرستوقراطية، فقد انتصروا بطبيعة الحال للاتجاه المقابل. والذى يجب ملاحظته فى هذه الحقبة أن مقدار التلوث سواء من تطرف الجامدين من المتدينين أو اجتراء العلمانيين والمغتربين لم يصل إلى التحريض على العنف أو نقض العادات والتقاليد أو هدم الأخلاقيات الراسخة فى العقل الجمعى المصري. غير أن الخطاب السلفى راح يردد مصطلح الغزو الفكرى واصفًا به كل مظاهر الاستنارة المقتبسة من أوروبا وكل ظواهر الخلاعة والمجون التى صاحبت الانفتاح على الآخر وانتشار العلم الحديث، ومن ثم انتقلت هذه الرؤية إلى الرأى العام التابع فى الريف والحضر على حد سواء من خلال المساجد ودروس الوعظ ومجالس المسامرة وحلقات العلم التى كان يعقدها الإخوان والسلفيون فى بيوتهم. ناهيك عن أحاديث الفلاحين الذين نزحوا إلى المدن المصرية فوجدوا فيها العديد من مظاهر المجون بداية من بيوت الدعارة والمراقص ونهاية بالثراء الفاحش والبذخ الذى كان يُنفق على يد الباشوات وذويهم. ويعنى ذلك أن الخطاب الدينى المرسل قد نجح إلى حد ما، ولاسيما فى فترة الثلاثينيات من القرن العشرين فى استعداء العوام على كل ما يأتى من الغرب وتتبناه الحكومة فى مؤسساتها، وأن ما فيه الفلاحون والعمال من ضنك وضيق فى العيش وإهمال اجتماعى وصحى سوف يُرفع عنهم بقدر تمسكهم بدينهم ودفعهم لظلم الباشوات وأجهزة الأمن.
وعلى الجانب الآخر نزع الخطاب العلمانى إلى أن خلاص المجتمع المصرى (مسلمين وأقباطا) مما هو فيه من تخلف، مرهون لتركهم ماضيهم المعتم بما فيه العقيدة والعوائد والتقاليد، واقتفاء العوام قبل النخبة أثر الغرب العلمانى فى كل شئون حياتهم. ولم يقل خطرا ذلك التطرف والجنوح على الرأى العام المصرى وتزييف هويته من تعصب سابقه، بيد أن الملاحظ أن الخطاب الدينى كان له عظيم الأثر، كما أشرنا على الطبقات الدنيا وطبقة العمال والفلاحين والحرفيين وصغار التجار، وفى الأحياء الشعبية التى تنحدر أصولها من الصعيد أو الريف، الأمر الذى مهد الطريق لمزيد من الأفكار المتشددة التى أباحت قتل المخالفين فى أمور السياسة. ولعل أشهر الأدبيات التى قارنت بين حال المسلمين المتخلف عن ركب الحضارة وصعود نجم الغربيين ورغبتهم فى ذيوع ثقافتهم، بل وفرضها على كل الشعوب بحجة الارتقاء بهم، هي: «لماذا تأخر المسلمون» لسعيد حليم باشا عام ١٩١٧م، و«لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم» لشكيب أرسلان عام ١٩٣٩، و«ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» لأبوالحسن الندوى عام ١٩٤٥. والجدير بالإشارة أن جميع هذه الأدبيات كانت تعبر عن آراء الاتجاه المعتدل أو إن شئت قل المحافظ المستنير المعنى بتثقيف الطبقة الوسطى والمحذر من خطر الانحياز إلى واحدة من جماعات التطرف والتعصب، كما أكدت هذه الرؤى أن مقابلة الأفكار المجترئة والطاعنة فى الإسلام لا تجابه بالعنف، بل بالتسامح والأدلة العقلية للبرهنة على أن الإسلام قادر على تجديد حضارته وبعث قيمه من جديد، وأن ما يدعيه غلاة المستشرقين ومن نحى نحوهم من شبيبة المصريين وأكابر الكتاب لا يستند على أسس علمية، بل هو درب من دروب التشيع للفكر الغربى حملهم على مسايرة الأفكار الضالة ونظرة سطحية توهمت أن ما فيه بلاد الإسلام من تخلف يُرد إلى الدين.

التعليقات معطلة.