رضوان زيادة
تصف منظمة اليونيسكو دمشق بأقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، وأحد أهم معالم جمال دمشق وروعتها على مدى التاريخ هو أنها تسكن بين غوطتين، الغوطة الغربية والشرقية، فالغوطة وفق معجم معاني اللغة العربية تعني رياض الجنة، ويضيف المعجم بأن غوطة دمشق «هي أَحد مَنَازِهِ الدُّنيا السبعة لكثرة ما فيها من الرياض، وما فيها من فاكهة ورياحين».
ما بين صورة الجنة وخيالها كما في معاجم اللغة العربية وما بين الصور القادمة من الغوطة اليوم حيث الدمار في كل مكان، وصور القتلى الممددين على الأرض لا يجدون أحداً يدفنهم أو مكاناً يُدفنون فيه، وصور القنابل والحرائق التي تلتهم البيوت من دون أي تمييز بين ساكنيها، نكون أمام صورتين متباينتين تماماً لسورية وغوطتها.
وُلدتُ وعشتُ كل طفولتي في مدينة داريا، التي تعتبر عاصمة الغوطة الغربية والتي عانت من الحصار على مدى أربع سنوات كاملة قبل أن يجبر نظام الأسد ساكنيها على الرحيل إلى الشمال السوري في أكبر عملية تهجير قسري جرت في تاريخ سورية الحديث، والآن أتى الدور على الغوطة الشرقية التي تعتبر دوما وحرستا وعربين أهم مدنها، استهدف نظام الأسد الغوطة الشرقية بحصار قاسٍ على مدى خمس سنوات جعل الحياة داخل «الجنة» جحيماً وحوّل من بقي داخلها إلى مجرد أحياء بيولوجيين ينتظرون دورهم القادم من الموت سواء عبر السماء أو القصف العشوائي أو التجويع أو القنابل المحرمة دولياً كالنابالم والقنابل العنقودية أو الأسلحة الكيماوية وغيرها من أنواع الأسلحة المختلفة التي تباهت روسيا أخيراً بأنها استخدمت أكثر من 200 نوع سلاح جديد في سورية.
أهم ما ميز الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة كان حصار سراييفو الذي استمر من نيسان (أبريل) 1992 إلى شباط (فبراير) 1996 أي ما يقرب من (1452 يوماً) والذي اعتبر حينها أطول حصار لعاصمة في تاريخ الحرب الحديثة، فقد استمر هذا الحصار ثلاث مرات أطول من معركة ستالينغراد تلك المعركة الشهيرة الخالدة في التاريخ خلال الحرب العالمية الثانية.
لكن حصار الغوطة الشرقية الآن يعتبر الأطول في التاريخ على الإطلاق بعد مرور ما يقارب الخمس سنوات بدءاً من أيار(مايو) 2013 وحتى يومنا هذا، علماً أن مساحة الغوطة الشرقية لا تزيد على مئة كيلومتر مربع ويقبع فيها اليوم بحسب إحصاءات الأمم المتحدة أكثر من 400 ألف شخص، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في عام 2014، «اعتباراً من آذار (مارس) 2013، بدأت القوات الحكومية تشديد الحصار حول الغوطة وتكثيف القصف الجوي في المنطقة المكتظة بالسكان. ومنذ ذلك الحين، أفيد بأن القوات الحكومية منعت المدنيين والقوافل الإنسانية من العبور إلى المناطق المحاصرة. وتضررت أو دمرت المستشفيات الميدانية والنقاط الطبية ومولدات الطاقة وخزانات المياه في ريف دمشق، بما في ذلك في مناطق دوما وزملكا وكفرباتنة وعربين وداريا والمعضمية نتيجة القصف الحكومي».
كما أن لجنة التحقيق الدولية المستقلة التي تقدم تقاريرها إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف تحدثت عن ممارسات الحكومة السورية في منطقة الغوطة في تقريرها الصادر في آب (أغسطس) 2014 «ارتكبت القوات الحكومية انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم حرب وأخذ الرهائن والتعذيب والاغتصاب والعنف الجنسي وتجنيد الأطفال واستخدامهم في الأعمال العدائية واستهداف المدنيين. وقد أدى القصف الجوي العشوائي وغير المتناسب إلى وقوع خسائر في صفوف المدنيين مع انتشار الرعب والهلع بينهم، واستخدمت القوات الحكومية غاز الكلور، وهو سلاح غير شرعي».
وقد كشف تحليل صور للأقمار الاصطناعية أجراه خبراء الأمم المتحدة في كانون الأول (ديسمبر) 2017 ما يقرب من 3853 منزلاً مدمراً و5141 منزلاً مصاباً بأضرار جسيمة 5423 مبنى متضرراً في شكل معتدل في الأجزاء الغربية الأكثر كثافة سكانية في الجيب. أما في حي عين ترما، حيث يعتقد أن ما بين سبعة عشر ألف وعشرين ألف مدني يعيشون، فإن 71 في المئة من المباني تضرر أو دمر، وفقاً للتحليل. أما في جوبر المجاورة فتبلغ هذه النسبة أكثر من 91 في المئة.
ويجب ألا ننسى أن الغوطة الشرقية نفسها كانت عرضة لأكبر هجوم بالسلاح الكيماوي في آب 2013 ما أدى إلى مقتل أكثر من 1400 شخص أكثر من 400 منهم من الأطفال، وعلى رغم ذلك بقيت المنطقة بأكملها تحت الحصار ومنع عنها وصول الإمدادات الغذائية والدوائية والطبية حتى بعد صدور قرارات مجلس الأمن الدولي تباعاً في شأنها، بخاصة في ما يتعلق بالكشف عن استخدام الأسلحة الكيماوية، ومن ثم القرارات الخاصة بالمناطق تحت الحصار، وبخاصة القرار 2268 الذي أدخل كلاً من الغوطة الغربية والشرقية كمناطق تحت الحصار وأقر بالإجماع في 26 شباط 2016، والآن بعد عامين كاملين ما زالت الغوطة الشرقية ترزح تحت الحصار.
لذلك، على العالم اليوم أن يتذكر أن مأساة الغوطة لم تبدأ اليوم وأن قرارات مجلس الأمن التي صدرت بحقها وآخرها القرار 2401 والذي لم يجد طريقه للتنفيذ كما القرارات التي سبقته، على المجتمع الدولي اليوم أن يفكر أبعد من تحويل مجلس الأمن إلى منبر للخطابة وتدبيج العبارات التي تصف ألم السوريين في الغوطة ومعاناتهم، وتستخدم وسائل أخرى بما فيها العسكرية من أجل حماية المدنيين والحفاظ على أرواحهم وضمان تحقيق انتقال سياسي يعيد الغوطة إلى روضة للجنة بدل أن تكون مرادفاً لجهنم على الأرض بحسب تعبير الأمين العام للأمم المتحدة.