صبحي ساله يي
عند التعمق بين خبايا التاريخ نجد حقائق تائهة وصادمة ومحزنة عن شخصيات لمعت بفضل ذكائها وأفكارها وكفاءاتها وإنجازاتها ومواقفها وحرصها على المبادىء والقيم السامية، شخصيات تستحق الإهتمام والتقدير ولكن همشت ونسيت ولم تنصف. كما نجد قصصاً عشوائية مغايرة للحقيقة عن أناس أخذوا أكثر من حقهم في أغلب الأوقات، تم تمجيدهم وهم يستحقون الشتم والتحقير، وكتبت أسماءهم في سجلات لايستحقون الدخول اليها، أو حتى الوقوف أمام عتباتها.
سقت بالمقدمة أعلاه لأتحدث عن ذكرى رجل ذاق الأمرَّين، وتعرض لكل أنواع الظلم والاضطهاد، شطبوا إسمه من الكتب رغم دوره البارز كأول رئيس وزراء مدني بعد إنتهاء الملكية في العراق، وكانت آخر أيامه، بيد البعث، كارثية بكل ما تحمله الكلمة من معان. فهو القانوني والدستوري والمفكر الذي حصل على أعلى الشهادات، وخرج من الدنيا محروماً من أبسط حقوقه. إنه الدكتور عبدالرحمن البزاز الذي كان رئيساً للوزراء عندما تحطمت طائرة الرئيس العراقي، عبدالسلام محمد عارف. في (13نيسان 1966) في البصرة. وأصدر في اليوم التالي بياناً نعي فيه الرئيس، وأناط مهمات رئيس الجمهورية برئيس الوزراء وفق الدستور المؤقت.
بعد إنتهاء مراسيم العزاء، عقد إجتماعين مشتركين بين مجلس الوزراء ومجلس الدفاع الوطني لاختيار رئيس الجمهورية، وتنافس على المنصب كل من الفريق عبد الرحمن عارف وعبد الرحمن البزاز وعبد العزيز العقيلي. وقبل ان تبدأ الانتخابات طرح البزاز مشروعاً يهدف الى إنهاء الإحتقان الطائفي والقومي الذي إمتاز به عهد عبد السلام عارف، يقضي بإلغاء منصب رئيس الجمهورية وإستحداث مجلس رئاسة ثلاثي يضم ممثلاً عن السنة وممثلاً عن الشيعة وآخر من الكورد، ولكن العسكريين عارضوا المشروع ورفضوه رفضاً قاطعاً وبشدة. في (17نيسان 1966) جرت الانتخابات بين المرشحين الثلاثة وحصل البزاز على (14) صوتاً وعارف على (13) صوتاً والعقيلي حصل على صوته فقط. وبدأ الخلاف بين المجتمعين، وبهذا الشأن يقول الرئيس مسعود بارزاني في كتابه (البارزاني والحركة التحررية الكوردية، الجزء الثالث، ص173).. (بعدها نهض العقيد سعيد صليبي آمر موقع بغداد، وقال وهو يلوح بمسدسه : عبدالرحمن عارف هو الرئيس. والمخالف سأنثر دماغه نثراً بهذا المسدس. فقضى بذلك على كل خلاف وقدم العقيلي إستقالته وخرج من الوزارة، وكلف البزاز ثانية بأعادة تشكيل الوزارة).
ولكن ما الذي حدث بين يومي 18 نيسان و6 آب، حيث استقال البزاز تحت تأثير ضباط الجيش؟
في 18 نيسان، وفي مؤتمر صحفي ناشد عبدالرحمن عارف الكورد الى المحافظة على وحدة البلاد والتعاون مع إخوانهم العرب في تأمين سلامة الوطن ووحدته. وبادر بعد عشرة أيام من تصريحه الى إرسال وفد للقاء البارزاني الخالد، طالباً الدخول في حوار، فرحب البارزاني بالفكرة. إلا أن ضباط الجيش الكبار إحتجوا على المبادرة وإشتد ضغطهم على عارف بتنفيذ خطة ( توكلت على الله ) المؤجلة بسبب مقتل عارف الأول، والتي كانت تتألف من عمليات عسكرية واسعة النطاق ضد البيشمركه.
نفذوا الخطة وحصلوا على الخيبة والإحباط، وتكبد الجيش خسائر فادحة في كافة جبهات القتال. وفقدت الحكومة كل أمالها في إحراز النصر العسكري، فعادت الى الحوار. وفي حزيران أعلن البزاز، عن إستعداد حكومته للأعتراف بالحقوق القومية الكوردية، والدخول في مفاوضات جديدة مع الحركة التحررية الكوردية بقيادة البارزاني. وأرسل في 15حزيران وفداً يتألف من شخصيات كوردية الى كلاله، تمهيداً لمجىء وفد ثاني، فوافقت قيادة الثورة الكوردية على المبادرة، وفي 18 حزيران وصل الوفد الثاني المخول من رئاسة الجمهورية بإجراء المفاوضات، وأكدوا على جدية الحكومة في الوصول الى حل سلمي للقضية الكوردية، ودعوا الى حضور وفد كوردي الى بغداد لإستكمال المباحثات، وفي 22 حزيران وصل الوفد الكوردي المفاوض الى بغداد ومكث فيها ثلاثة أيام.
وفي 29 حزيان تم التوقيع على إتفاق بين الجانبين، تألف من إثنتي عشرة فقرة، وأذاع البزاز البيان، في ذات اليوم، وعرف فيما بعد ببيان حزيران.
بعدها وقف الضباط الشوفينيين والمستفيدين من القتال في كوردستان مادياً ضد إتفاقية البزاز، وإستغلوا ضعف عارف فإنصاع لهم، وطلب من البزاز تقديم استقالته، وفي 6 أب، قدم إستقالته وبقي بيان التاسع والعشرين من حزيران 1966 حبراً على ورق.