جورج سمعان
انطلق قطار عادل عبد المهدي. وانطلق بنصف حكومة أو أكثر بقليل. نال الثقة مع 14 وزيراً وتأجل بت مصير 8 مرشحين لثمانية حقائب. لكن برنامجه الحكومي كان طويلاً طويلاً، نحو أربعين صفحة. حتى أن أحد النواب المستقلين، فائق الشيخ علي، انتقده متسائلاً بسخرية «هل يوجد برنامج طوله من باب السلالمة بكربلاء إلى باب الطوب بالموصل»؟ وقال إن البرنامج «لن يستطيع تشرشل ولا كليمنت إتلي ولا أديناور تطبيقه، حتى لو ساندهم هتلر وموسوليني وصدام حسين»! ربما لهذا السبب لم يتسن للنواب في جلسة الثقة مناقشة البيان الوزاري. بل لم يهتموا بذلك بقدر اهتمامهم بالتنافس على اقتسام الحقائب حتى الساعة الأخيرة قبل أن يعتلي رئيس الحكومة الجديد، ليل الأربعاء الماضي، المنصة لمخاطبة البرلمان. فقد سبقه إلى مثل هذه البرامج الطموح سلفاه نوري المالكي وحيدر العبادي. ولم يتحقق سوى القليل من برنامجهما. بل تفاقمت في عهدهما أوضاع العراق الاقتصادية والأمنية، وتعمقت الخلافات السياسية. إلا أن الشيء الوحيد الذي ترسخ هو نظام المحاصصة. لذلك، تضاربت ردود الفعل وتقويم الخطوة الأولى للوافد الجديد إلى رأس السلطة التنفيذية في العراق.
الثابت من الأسماء التي قدمها عبد المهدي إلى مجلس النواب وتلك التي أرجأ تقديمها إلى وقت لاحق أن المحاصصة لم تغب. وإن جاءت تحت غطاء عدد من التكنوقراط في حقائب أساسية، مثل الخارجية والنفط والكهرباء. وبدا واضحاً أن الموقع الإلكتروني الذي أطلقه لفتح باب الترشيحات لحكومته، أرضى بعض الشارع. وعبر ربما عن طموحه وحلمه بإخراج العراق من اللعبة السياسية المستمرة منذ 15 سنة. وحتى إعلان مقتدى الصدر وهادي العامري منحه حرية التصرف والاختيار كان ذراً للرماد في العيون. والتوافق بين الرجلين لم يكتمل عندما أزف الاستحقاق، وحال راعي تيار «سائرون» دون تمرير فالح الفياض مرشح «الفتح» لحقيبة الداخلية. طغت مواقف الأحزاب وليس الكتل البرلمانية على الاستشارات السرية وحتى العلنية. وبدا أن الجميع يدور في فلك القوتين الشيعيتين الرئيسسيتين. وتفاقم الخلاف بين أهل السنة الموزعين بين تلك القوتين على حقيبة الدفاع. ولم ترض القوى الصغيرة بما قسم لها أو لم يقسم، مثل المسيحيين والتركمان. وحتى البصرة عبرت عن امتعاضها من غياب أي ممثل لها في الحكومة الجديدة. أما الكرد فلم يجدوا بعد طريقهم إلى التفاهم. فالحزب الديموقراطي يرغب في الاستئثار بالحصة الكردية ما دام حصد المرتبة الأولى في برلمان كردستان. وما دام الشريك الآخر، الاتحاد الديموقراطي، نال موقع رئاسة الجمهورية. ولا يعرف كيف ستدار الأمور بين الطرفين، وبين بغداد وأربيل، في ظل التنافر بين مسعود بارزاني وبرهم صالح!
الحزب الشيوعي، شريك الصدر في «سائرون» رحبت لجنته المركزية بما سمته «الحراك» في جلسة الثقة. ورأت أنه «حقق خطوة نحو تجاوز نهج المحاصصة، ونجح في إخراج الحكومة جزئياً من هذا النهج». وعزت الفضل إلى كتلة «سائرون» التي خرج راعيها الصدر أول الفائزين في هذه الحكومة العرجاء. ويعني ذلك أنه لم يطلق يد عبد المهدي كما وعد في تصريحاته. بل نجح في تأجيل التصويت على الثقة بباقي الوزراء، لخلافات سياسية وشخصية، بالتعاون مع شريكه حيدر العبادي الذي كان أقال الفياض من موقعه مستشاراً للأمن القومي ورئيساً لهيئة «الحشد الشعبي»، إثر انشقاقه عن كتلة «النصر» والتحاقه بكتلة «الفتح». لكن المحكمة الإدارية أبطلت هذا القرار. لا يعني ذلك أن كتلة «الحشد» فقدت موقعها الحكومي. الكرة في ملعبها الآن وعليها أن تختار شخصاً آخر للداخلية التي تحرص إيران على أن يكون شاغلها قريباً منها. ولعل خير تعبير لوصف ما حدث ساقه إياد علاوي رئيس ائتلاف «الوطنية».
وصف النافذة الإلكترونية لتلقي طلبات الترشيح بأنها «مجرد خداع». وقال أن تشكيل الحكومة الجديدة تسيطر عليه كتلتان شيعيتان مهيمنتان على المشهد السياسي للبلاد وهما «سائرون» و «الفتح». ومثله كثيرون، وبينهم مراجع دينية، لم يجدوا في التشكيلة الجديدة خروجاً عن النظام السياسي القائم. بل إن بعض القوى الصغيرة، من تركمان وسنة وغيرهم ممن طغى عليهم تأثير القوى الكبرى، عبر عن غضبه واحتجاجه.
لم تترك الأحزاب السياسية هذه المرة الخيار الكامل لعبد المهدي. وشوهد رموز منها في باحة البرلمان يشاركون في «الصفقة» وهم ليسوا أعضاء في المجلس! والمهم الآن أن قطار الحكومة أقلع وإن بعربة واحدة. ولا يعني ذلك أن ما حققه الصدر سيكون على حساب إيران والقوى الحليفة. طهران ليست قلقة على حصتها في بغداد، ما دامت القوى الشيعية هي التي تقتسم الحكم وتوزع الحصص. كما أن رئيس الحكومة الجديد لا يمكنه الخروج عليها. ولا واشنطن قلقة، بل هي رحبت بالحكومة وبعض الوزراء. التفاصيل لا تعني هذين الطرفين الخارجيين ما دام «التوازن» بين حضورهما قائماً وثابتاً. المهم كيف سيحافظ عبد المهدي على حياده أو استقلاله، وكيف سيترجم برنامجه الطويل، في حين أنه لا يتمتع بغطاء حزبي بمواجهة الضغوط الهائلة للقوى الحزبية والطائفية. لجأ الآن، كما فعل سلفاه، إلى تولي حقيبتي الداخلية (للشيعة) والدفاع (للسنة) بالوكالة. حاول بالموقع الإلكتروني للمرشحين أن يعطي أملاً للشعب باختيار الكفوئين للوزارة الجديدة. لكن الواقع شيء آخر. رضخ بطريقة مواربة لـ «نظام المحاصصة». بات اليوم أمام امتحان كبير. كيف سيوفق بين جشع الأحزاب ورغبات الشارع الذي قال كلمته في الانتخابات سواء بالمقاطعة أو بمعاقبة بعض القوى. والذي بات رقماً في المعادلة السياسية. ألم يجبر هذا الشارع القوى على تبديل شعاراتها ومسمياتها للإيحاء بخروجها من عباءة الدين أو التبعية لهذه القوة الخارجية أو تلك؟
حيدر العبادي ورث تركة ثقيلة من سلفه نوري المالكي. ونجح في قيادة المعركة على الإرهاب، وفي إعادة بناء الأجهزة الأمنية والعسكرية. لكنه أخفق في القضاء على الفسادين الإداري والمالي، وفي تجاوز نفوذ الأحزاب والقوى التي لن تتوقف عن زج مناصريها ومحازبيها في مفاصل الإدارة التي أثقلها عبء الموظفين في القطاع العام. يناهز عددهم سبعة ملايين يستنزفزن ما يربو على ثمانين في المئة من الموازنة العامة! والسؤال هل سيكون بمقدور عبد المهدي رد عقارب الساعة إلى الوراء واختصار هذا العدد الهائل من البطالة المقنعة؟ وماذا يبقى من المال العام لتوفير الخدمات وإعادة تأهيل البنى التحتية والمدن التي دمرتها الحروب المتتالية، والتي تحتاج إلى مليارات الدولارات، فيما العراق يعتمد اعتماداً شبه كلي على عائداته النفطية لتمويل الخزينة؟ كيف سيحقق للمواطنين الذين كانوا يندفعون إلى الشارع في احتجاجات متكررة منذ 2010 رغبتهم في قطع دابر الفساد؟ هم يريدون رؤوساً تقطع، ولعل هذا مقياسهم لنجاح أي رئيس حكومة. هم لا يعيرون بالاً للظروف التي تحيط بهذا الملف الذي لا يمكن طي صفحته من دون تعاون قوى خارجية لجأ إليها الفاسدون. فالرشى وسرقة المال العام عرف أبطالها كيف يفيدون من الثغرات أو الآليات القانونية وما تتيحه المؤسسات المالية والشركات في الخارج. لذا، يبدو صعباً تقديم رؤوس كبيرة إلى القضاء.
ما يلح عليه العراقيون توفير الخدمات ووقف الفساد أولاً وأخيراً، ووقف التدخلات الخارجية. يريحهم أن يعلن عبد المهدي أن العراق سيعطي الأولوية لمصالحه الخاصة واستقلاله في ما يخص مساعدة الولايات المتحدة في تطبيق العقوبات على إيران. قال: «نريد أن نبعد العراق من أي تدخل في قضايا الدول الأخرى وشؤونها، سواء بلد مجاور أو أي بلد آخر في العالم». سار في هذا على منوال سلفه ولكن بتعبير مختلف. حملت طهران وحلفاؤها على العبادي وكان استعجل في موقفه قبل بدء العقوبات.
علماً أنه جاهد لإخراج العراق من تركة ثقيلة خلفها سلفه ونجح في الإبقاء على حد معقول من التوازن بين القوى الداخلية والخارجية المؤثرة والفاعلة. لكن الظروف الحالية المحيطة ببلاد الرافدين ستشكل عبئاً كبيراً على عاتق عبد المهدي. ستواجه الجمهورية الإسلامية بعد أيام الوجبة الثانية من العقوبات الأميركية الأشد.
وهي تعول على العراق بوابة رئيسية بين بوابات أخرى للالتفاف على هذه العقوبات. فهل يستطيع رئيس الحكومة الجديد حمل «جمرة التوازن» بين طهران وواشنطن وتجنيب مواطنيه تداعيات هذا الصراع الجديد؟ وقبل ذلك، هل يمكنه مواجهة المشكلات الداخلية التي عجز سلفه عن حلها؟ قد يمنحه الشارع والقوى الحزبية فترة سماح سنة، طالت أو قصرت، من أجل جني ثمار برنامجه «الطويل» طول العراق وعرضه… إلا إذا لجأ إلى الاستقالة التي يضعها في جيبه كلما جبهته الصعاب، كما فعل في السابق!