عبدالوهاب بدرخان
لم تنضج الظروف بعد للتطبيع العربي مع النظام السوري، والأرجح أنها لن تنضج قريباً. اجتماع وزراء الخارجية العرب الستة في البحر الميت، وزيارة العاهل الأردني لتونس التي تستضيف القمة العربية العادية أواخر آذار (مارس) المقبل، كذلك الاجتماع الأوروبي – العربي في بروكسيل تمهيداً لقمّة تجمع الطرفين في شرم الشيخ أواخر هذا الشهر، فضلاً عن جولة وزير الخارجية الأميركي في المنطقة الاميركية… محطات أظهرت أن التطبيع، لو حصل بالوتيرة التي أُوحيَ بها في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، كان سيبعث رسالة بالغة السلبية ليس فقط الى الشعب السوري بل الى المجتمع الدولي، مفادها أولاً الاعتراف لنظام بشار الاسد بأن كلّ ما فعله كان صائباً والاستعداد للتغاضي عن جرائم النظام والقبول بإفلاته من أي محاسبة، وثانياً التخلّي عن الشروط المشروعة والضرورية لحل سياسي متوازن وفقاً للقرارات الدولية، وأخيراً الاستسلام لواقع تقسيم سورية مناطقَ نفوذ بين روسيا وايران وتركيا.
يضاف الى ذلك أن الانسحاب الأميركي المزمع من شمال سورية ينذر بسيناريوات غامضة وقاتمة، ولا يساعد على أيجاد مناخ مناسب وداعم للعودة العربية الى سورية. فالأزمة تدوّلت بالطريقة التي رسمتها ايران ثم روسيا، على رغم النظام أو بإرادته حين ساهم وايران في تفعيل الإرهاب وتوفير التسهيلات اللوجستية لمجموعاته. وقد حصل هذا التدويل مع وجود دور عربي مساند لمعارضي النظام الى أن انحسر هذا الدور ليقتصر على المشاركة في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم «داعش». ولن يترك الانسحاب الأميركي للوجود العربي في سورية سوى التنسيق مع روسيا أو مع النظام، وهما خياران غير مريحين، فمن جهة بنى الروس محورهم الثلاثي مع الإيرانيين والأتراك، وفي المقابل لم تعد الجدوى من التطبيع مع النظام واضحة فلا أحد يستطيع تحديد دوره في صنع القرار أو تقدير مدى تأثيره في مجرى الأحداث. صحيح أنه يجري اتصالات مكثّفة مع أطراف عربية وغير عربية ويتظاهر بأن وضعه لم يتغيّر، فهو يطلق وعوداً ويستدرج عروضاً ويفرض شروطاً، إلا أن الواقع شيء آخر تماماً.
بعيداً عن التمنيّات أو التكهّنات، لم يكن وضع النظام أكثر هشاشةً مما هو حالياً، ويمكن الاستدلال الى ذلك من معنويات أوساطه والقريبين من حلقته الضيّقة. بفضل روسيا، تجاوز النظام فعلياً منذ خريف 2015 خطر السقوط أو الإسقاط بأيدي خصومه المعارضين، وعاش في 2017 و2018 نشوة النصر واستعادة السيطرة كما أرادها وتخيّلها، لكن المؤشّرات بعد كل محطة كانت تنذره بأن ما بعد النصر لن يكون كما أراده وتخيّله، إذ يشعر الآن بأن سقوطه أو إسقاطه، بأيدي حلفائه، لم يعد احتمالاً مستبعداً. فالقريبون من رئيس النظام يتهامسون بأنه متوترٌ ومستفَزٌّ على نحو غير مسبوق. في فترة معارك الغوطة قبل نحو عام ثم استعادة درعا في الصيف كان هؤلاء القريبون يبدون ارتياحاً عميقاً وتقديراً عالياً للدور الروسي مقابل ضيق وتبرّم من الدور الإيراني بعدما جعلته الضربات الاسرائيلية يلوح مكلفاً للنظام. لكن هذا الرأي انقلب الى عكسه تماماً في الفترة الأخيرة، إذ عاد القريبون يقولون أن الوقائع برهنت وفاء ايران وصلابة التحالف معها.
ثمة أسباب مباشرة وغير مباشرة لتقلبات الأمزجة هذه، بينها ما يرتبط بحسابات ضيقة ويمكن وصفها بـ «العائلية» بسبب ما يبديه الروس من تهميش وعداء لشقيق الرئيس ماهر الاسد قائد «الفرقة الرابعة» التي قيل أن موسكو طلبت حلّها وقيل أيضاً أنها أمرت بإعادتها الى مهمتها السابقة وهي تأمين دمشق ومحيطها. ومن شأن ذلك أن يقلق رئيس النظام، إذ ينذره بأن الحليف الروسي بدأ ينفصل عنه في عملية إعادة ترتيب صفوف الجيش وهيكليته. والواقع أن توجّه روسيا الى تفضيل «الفيلق الخامس» الذي أنشأته والاعتماد على قائده سهيل الحسن الذي أشاد به فلاديمير بوتين بحضور الاسد، يُعتبر أيضاً خطوةً مناوئة لايران التي ضمّت العديد من مقاتلي ميليشياتها الى «الفرقة الرابعة» ويتخفّون بلباس ضباطها وجنودها، بل ان الايرانيين هم الذين وسّعوا نطاق عمل تلك الفرقة ووجودها، سواء في الجنوب (وصولاً الى الجولان) حيث أصيب ماهر الأسد بشظية قذيفة أواخر الصيف الماضي أو الى الشمال الغربي في ريف حماة وسهل الغاب حيث يسعى الروس الى تكريس سيطرة «الفيلق». وبسبب الإيرانيين استهدفت الضربات الإسرائيلية «الفرقة 4» أكثر من مرّة ولم تهاجم «الفيلق 5» ولا مرة، أما إعلام قاعدة حميميم فكان واضحاً باتهامه «الفرقة 4» بالعمل «بتوجيهات أجنبية» وتأكيده أن القوات الروسية لن تسمح لها بـ «العبث بأمن المنطقة» ولا بـ «تجاوز الخطوط الحمر».
كانت الصدامات بين «الفرقة الـ 4» و»الفيلق الـ 5» اندلعت منذ منتصف آب (أغسطس) 2018 في سباق للسيطرة على المناطق وبالأخص على المعابر. لكن الاستيلاء على الأتاوات والضرائب ليس الهدف الوحيد للاقتتال الذي بات يوصف في دمشق بأنه «علوي – علوي». فلكلٍّ من الفرقة والفيلق ميليشيات محلية ملحقة به، وهذا ما يعطي الاقتتال طابعاً أهلياً بمقدار ما هو صراع بين طرفَين يفترض أنهما ينتميان الى النظام. ويدلّ القتال الى خلاف عشائري علوي، بين «الحيدرية» التي تشكّل غالبية علويي الداخل (سهل الغاب وريف حماة) التي ينتمي إليها سهيل الحسن ومعظم مقاتليه وبين «الكلزية» و»الكليبية» اللتين تشكّلان غالبية علويي الساحل ورموز النظام. وقد تعامل الساحليون مع جماعة الداخل باعتبارها أقلّ شأناً لكن «الحيدرية» تعتبر أنها قدّمت أكبر التضحيات دفاعاً عن النظام وأن أهلها كانوا وقود ما يسميه النظام «انتصاره»، لذلك فهي تطالب بـ «حصة» من هذا الانتصار تتضمّن السيطرة على المعابر والحواجز والاستحواذ على منافعها المادية، وكذلك حصول ضباطها على مناصب عسكرية عالية كتلك التي دأب علويّو الساحل على احتكارها.
الأسباب الأخرى لقلق النظام كثيرة، ويمكن اجمالها في هذه العناوين الآتية: 1) باتت متطلبات الداخل تضغط عليه في بيئته الموالية ولا قدرة لديه على معالجة الوضع الاقتصادي الذي بدأ يتحول الى انفلات أمني، فأزمة الغاز والكهرباء وبعض المواد الأساسية وتدهور العملة ضاعفت النقمة. وإذ ظهرت النقمة على الفايسبوك فقد حاول مجلس الشعب عقد جلسة لمساءلة الحكومة لكن وزير القصر حضر وألزم النواب بالصمت، واستدعي الصحافيون لإنذارهم بتوخّي الحذر، ودعت غرفة التجارة أعضاءها لإبلاغهم بأن المرحلة صعبة وتتطلّب الصمود. 2) ظهور مفاعيل العقوبات الدولية ومؤشّرات «الخنق الاقتصادي» الذي يمكن أن يعزّز الفوضى الداخلية، فالإقبال العربي الذي راهن النظام على مكاسب مالية منه ما لبث أن تفرمل بالضربات الاسرائيلية، أما روسيا وايران وعلى قدراتهما المعروفة فلم تتمكّنا من تحقيق انفراج في أزمة الوقود. 3) استياء من روسيا التي تعامل النظام بتهميش ملحوظ، إذ حرمته أي مكسب من «بازار» الانسحاب الأميركي وكذلك من القتال في إدلب ودير الزور للهروب من مشاكل الداخل، فيما تنكبّ موسكو على ادخال تركيا وتثبيتها في المعادلة بمنحها امتيازات في مناطق الشمال.
ومع أن فتح معبر جابر – نصيب شكّل أملاً للنظام، خصوصاً أنه ترافق بتطوير للتمثيل الديبلوماسي الأردني، إلا أنه سرعان ما استنتج أن هذه البوابة مقيّدة بشروط دولية، تحديداً أميركية وأوروبية وحتى عربية. فبمقدار ما تظهر كأنها فُتحت لـ «إنعاش» النظام بمقدار ما تبدو وظيفتها تنظيم التضييق الاقتصادي عليه وتقنين الفوائد التي تأتيه عبر لبنان. وكما أُبلغت بيروت أبلغت أيضاً دمشق وجوب أخذ السياسة الأميركية بكامل الجدية والحذر، فواشنطن سواء انسحبت من المنطقة أو بقيت فيها ستواصل تركيز عقوباتها وعملها على اضعاف ايران ووكلائها الى أقصى حدّ، وستحرص على عدم تمتّع ايران بـ «الممر» بين طهران وبيروت مروراً ببغداد ودمشق، كما أن واشنطن ستبقى متنبّهة لسعي الإيرانيين و»الحشد الشعبي» العراقي و»حزب الله» اللبناني الى افتعال مواجهة مع قواتها أو مع إسرائيل بما تنطوي عليه من مخاطر حرب في المنطقة.