وليد شقير
يحتاج رئيس الحكومة اللبنانية الجديدة سعد الحريري إلى كثير من الجهد من أجل تبديد الرواسب السياسية التي تركتها مناورات تعطيل قيام حكومته خلال الأشهر الثمانية الماضية، من أجل تأمين انطلاقتها بدعم خارجي بات ملحا ومطلوبا بقدر ما هو مطلوب وملح انكبابها على التصحيح المالي وتنشيط الاقتصاد وانتظام عمل المؤسسات لإخراج الدولة من حال الترهل والفساد والهدر.
تركت الأشهر الماضية التباسات لا تحصى حول أسباب عرقلة التأليف، سواء الداخلية أو الخارجية. ومن المحال التخفيف من الدوافع السياسية لهذه العرقلة، التي تحتسبها جيدا الدول العربية والغربية التي سيعتمد لبنان على دعمها لانتشال اقتصاده من الهوة. وانسحبت هذه الالتباسات على احتساب الغلبة لمن داخل الحكومة، في ظل الحديث عن أكثريات متنقلة، يجري صرفها على القطعة وحسب القضية التي ستطرح على مجلس الوزراء، وعن قدرة هذا الفريق أو ذاك على التعطيل ، بعدما كثرت «البهلوانيات» عن دمج كتل نيابية واختراع كتل أخرى وهمية موزعة الولاءات والانتماءات، بهدف توزير فلان من حصة هذا الفريق أو ذاك.
النتيجة كانت واضحة بالنسبة إلى الدول التي تراقب لبنان، والتي اعتقد البعض، بشيء من التذاكي، أنه يمكن صرف نظرها عن الحقائق بالمناورات الكلامية. فتعطيل التأليف لم يخف الواقع القائل أن «حزب الله» أراد استعراض الغلبة التي يعتقد أنه حققها بفعل تطورات الإقليم من جهة، أو لسبب يتعلق بضمان الأرجحية في التوازن داخل الحكومة في زمن الهجمة التي تتعرض لها إيران من الولايات المتحدة الأميركية بالعقوبات وبالغارات الإسرائيلية على وجودها في سورية، من جهة أخرى، لأن لبنان يبقى جبهته الدفاعية الاحتياطية.
كما أن هذا التعطيل، مهما كانت مبرراته الداخلية، وذرائعه الطائفية والفئوية والمصلحية الضيقة، ليس بعيدا عن حسابات فريق محلي يتحيّن الظرف الإقليمي من أجل تحقيق أوهام استعادة أمجاد الصدارة في ضمان الاستمرارية في إدارة البلد، وفي التنافس على استثمار إمكانات البقرة الحلوب التي هي الدولة، والتي باتت اليوم موعودة بـ«علف» النفط والغاز في البحر حيث يجري التسابق قبل 6 أو 7 سنوات، على خيراتهما المفترضة. تجسد هذا النوع من التعطيل أيضا بمطالب «التيار الوطني الحر» الحكومية الفائضة عن قوته الحقيقية. فهو استند إلى فائض قوة حليفه «حزب الله»، مهما كانت التباينات التي ظهرت بينهما، عندما اصطدما نتيجة مغالاتهما بطلب الحصص الوزارية، أو باستباق معركة رئاسة الجمهورية ومتطلبات التموضع المبكر فيها.
لم يترك «حزب الله» هامشاً للاستراحة بعد معارك التأليف على قاعدة اقتناعه بالانتصار في سورية، حتى بعد تأليف الحكومة، فاقترح أمينه العام السيد حسن نصر الله تأمين الدفاعات الجوية للجيش اللبناني من إيران، وتعهد حل أزمة الكهرباء التي يعاني منها لبنان، من إيران أيضا.
لا مهادنة من الحزب بعد التأليف، بل اندفاع جديد لجذب لبنان نحو المحور الإقليمي الذي يدين له بالولاء في زمن العقوبات الأميركية المتشددة ضد طهران. وإذا كان الاتحاد الأوروبي ابتدع آلية للتبادل التجاري مع طهران تقتصر على الأدوية والمواد الغذائية، لتفادي العقوبات بعد انسحاب الشركات الغربية الكبرى من الاستثمار في إيران، فإن الحزب لا يشعر بالحرج من تحميل البلد الصغير أثقال جهود إيران لاعتماد مهارب من العقوبات. فمن أهداف العقوبات الحؤول دون أن يكون لبنان إحدى ساحات تمويل الحروب التي يخوضها الحزب في الإقليم، لأنه تحول في السنوات الأخيرة إلى «ملتقى» مالي وإعلامي وسياسي ولوجستي، لخدمات هذه الحروب، لاسيما الحرب السورية.
ووزير الخارجية جبران باسيل لم يقف عند حدود المطالب التي تجمدت الحكومة بسببها، فواصل بعد تشكيلها اندفاعته للتفرد بالقرار السياسي اللبناني، إن برسمه سياسة الحكومة متعديا على صلاحياتها مجتمعة، أو بتسليفه الحليف الإقليمي، عبر دور رأس الحربة في استباق القرار العربي عودة سورية إلى الجامعة العربية، في وقت تهيئ الدول المعنية معايير لتحقيق هذه العودة.
عندما أقبل الحريري على التسوية حول رئاسة العماد ميشال عون كانت استطرادا ربط نزاع مع «حزب الله». وهو ما دفعه إلى تسميتها بـ«المخاطرة». إلا أن الفريقين أخذا يضيقان عليه هامش الحركة، أثناء تأليف الحكومة وبعد إنجازها، ما يصعّب عليه الإفادة من الدعم الغربي والعربي لاستنهاض اقتصاد البلد، الذي لم يكن ليتأمن من دونه. فالعواصم المعنية تتأنى قبل الإقبال على ما وعدت به، للتأكد من نوايا الحزب وحليفه.