أحمد المعشني
وصلنا إلى وادي كوبوت جنوب ولاية شليم قبل الغروب بنصف ساعة، أدركنا الغروب وهو يبدد خيوط النور الظاهري بعيدا، يبدأ الوعي يختبر حالة من السكينة والهدوء، يوغل في أعماق الكون الروحي على إيقاع اذكار المساء. هيمن الظلام على الوادي، بينما سطعت النجوم والكواكب في السماء بعيدا، بعيدا تفجر ينابيع الفضول والتساؤلات وتلتمس الإجابات من ينابيع الروح.
أطلقت العنان لروحي لكي تتسع وتتمدد وتملأ الفضاء اللا نهائي الذي تقف العين عاجزة عن ارتياد آفاقه، بينما تنطلق خيوط الروح بسرعة تفوق سرعة الضوء، لترى وتسمع وتشعر بحواسها النافذة التي تتجاوز المعقول وتتغلب على الجهل. خلاء فضائي شاسع، صمت، وسكون، ونجوم تتلألأ من بعيد، وكنت أحاول أن أفرغ عقلي من ثرثرة الحياة، ومن تداعيات الماضي لكي يلتحم مع اللحظة، هذه فرصة لا تعوض، الهدوء يخيم على المكان، وأصحابي آووا إلى خيامهم الصغيرة بعد عناء الرحلة التي قطعنا خلالها مسافة 250 كيلومترا.
فتحت طرف الخيمة الصغيرة متابعا حركة الكواكب والنجوم، جلست مسترخيا، متأملا، طلبت من عقلي الواعي أن يرتاح وينعم بالسكينة، وركزت انتباهي على حركة الشهيق والزفير بهدوء، وأطلقت العنان للروح لكي ترتاد أعماق الذكاء النهائي، من هناك جاءت كل الحضارة، ومن نفس المصدر ظهرت كل الاختراعات والمكتشفات، تذكرت اسطورة قرأتها منذ فترة ليست طويلة تقول أن الخالق عزوجل أخفى السر المطلق عن الإنسان لكي يبحث ويتساءل، فجاءت إليه بعض مخلوقاته تسبح بحمده وتعرض أن تقوم بدورها في إخفاء السر عن الإنسان ذلك المخلوق العجيب الفريد.
فجاء الصقر إلى الخالق عزوجل وقال له: سأخذ السر وأطير به بعيدا بعيدا وأخبئه في القمر حتى يصير بعيدا عن الإنسان فلا يصل إليه، فرد عليه الخالق عز وجل: إن الإنسان سيكتشف القمر، فجاءت الحيتان وقالت: أنا ألقي السر في أعماق المحيط فلا يعثر عليه الإنسان، لكن الخالق عز وجل رد بأن الإنسان سوف يكتشف المحيط ويغوص في جميع مكنوناته، فجاءت جاموسة وقالت أنا أمتلك الحل، سوف أضع السر في البراري والحقول وبين الأشجار، فرد عليها الخالق عز وجل سوف يقشر الإنسان الأرض ويكشف كل أسرارها.
وعندما عجز الجميع عن اقتراح مكان مناسب لإخفاء السر عن الإنسان، جاءت عجوز هادئة، تبدو عليها علامات الحكمة والهدوء والوقار، وقالت أنا أعرف المكان الآمن الذي يمكنه أن يتسع لسر الحقيقة المطلق، فسألها الخالق عز وجل وهو يعلم: أين ذلك المكان؟ فردت عليه العجوز: إن المكان الأمثل لحفظ السر يكمن في أعماق الإنسان، فباركها الخالق عز وجل وقال لها: لقد عرفت الحقيقة، إن المكان الأنسب لحفظ السر الأكبر هو في داخل الإنسان، فكل الأسرار موجودة في داخلك، انظر بعيدا أو انظر قريبا، فكر أو لا تفكر، إن جيمع الإجابات التي تبحث عنها موجودة في أعماقك. كنت أفكر بهذه الأسرار التي تبعث فضولا لا يهدأ، كان الصمت مبجلا جدا، وتلاشت جميع الأصوات إلا صوتا واحدا فقط هو صوت الصمت. لا أصوات ولا ضجيج، ولا شيء سوى الصمت. كان القمر يبسط في السماء حياة وهدوءا، بينما كان الوادي يسجد لله في خشوع. في تلك اللحظات حاولت أن أكون مستعدا لتلقي الإجابات حول أسئلة حياتي، وتنبثق من أعماقي خيوط من النور تبدد الحيرة والخوف وتدفعني بثقة كبيرة إلى الحركة والسعي والإبداع. هنا يصبح الزمن مستقرا وثابتا، ويستمر النمو الإنساني متحررا من مراحل العمر، ليلتحم الإبداع مع الأبدية في تعانق روحاني متجدد.