سهيلة فوزى
“القهوة هى مزاج الأشخاص الذين يحفظون للكوكب توازنه” عمر طاهر فى روايته “كحل وحبهان”.. إذا فأنا واحدة من هؤلاء البشر المساهمين فى اختلال توازن هذا الكوكب عن جدارة، أول مرة وقعت عيناى على كلمات “طاهر” لم يكن لى علاقة بالقهوة، كنت أعتبرها دوما مشروب العجائز والجنائز، أو من تشغلهم أفكار كبيرة فشلوا فى السيطرة عليها؛ فاستعانوا بمسحوق البن لترويضها. هى مزاج أكبر منى.
المحاولات الأولى لضبط المزاج بدأت على يد جدتى فى قريتنا الصغيرة بالمنيا، تحضر لنا الشاى كالكبار، وتُصر أن نشاركهم لحظات السعادة تلك، رغم اعتراض أمى. اعتدت شاى جدتى فى إجازات الصيف بمذاقه المميز المستمد من ماء الطلمبة، مذاق اختفى بعد دخول حنفيات المياه المكررة إلى بيوت القرية، واختفاء الطلمبات.
تبدل المذاق لكن استمرت العلاقة بيننا محكومة بشروط واضحة، أهمها الشفافية لا أتناوله إلا من كوب زجاجى، أما الخرف المزخرف اعتبره “عذول” غير مُرحب به، جدارا عازلا يحجب متعة النظرة.
درجة لون الشاى هى جواز مروره فى كل مرة يجمعنا اللقاء، اللون سر تلك العلاقة المقدسة لضبط إيقاع مزاجى المتقلب. لم أقبل به أبدا فاتحا مائعا كرجل لا يليق بوجود أنثى فى حياته، ولا أرحب به داكنا مُرا كغيرة تكتب نهاية أى علاقة قبل بدايتها. أفضله وسطا ما بين الأحمر الفاتح – شاى القاهريين – والحبر الأسود الصعيدى. درجة خاصة يتلونها لى وحدى تمزج بين جدية الصعيد وحلاوة خفة القاهريين.
علاقة هادئة متزنة دامت طويلا لم يعكر صفوها إلا هوس النظام الغذائى. لعنة الرجيم أزاحت الشاى الأحمر عن عرشه، ليحل محله الشاى الأخضر، ذلك المشروب الذى لم أرتح له يوما. هو جيد صحى ومفيد، ويجب الارتباط به إذا أردت إنجاح خطتى لفقدان الوزن. يومها تجلى الشاى الأخضر كرجل جاد، مهذب، ناجح فى عمله، لديه شقة وسيارة نموذج مثالى لزواج الصالونات.. أو تلك الزيجات التى يبحث فيها الرجل عن شريكة له بالفراش، لا يهم من تكون الأهم كيف تبدو.
رغم سخافة هذا النوع من العلاقات غير أنى احتملتها عاما إلا قليلا، أحيانا سادت المودة بيننا بحكم التعود، أو بحكم المنفعة، ولكن ظلت المشاعر المعادية تحت السطح، حتى نلت ما أردت، ثم انفصالا هادئا.
فى تلك المرحلة من اضطراب المزاج فكرت فى العودة من جديد للحب الأول، ثم تذكرت قول إحسان عبد القدوس: “فى حياة كل منا وهم كبير اسمه الحب الأول” فتراجعت عن دعوة الشاى الأحمر إلى طاولتى من جديد.
على مدار سنوات حاول النسكافيه التسلل، وإزاحة الشاى الأحمر، كنت أغضب أياما من الشاى فارتمى مع غضبى فى كوب نسكافيه ممزوجا باللبن، ولكنها مرات عابرة لم ترقَ أبدا إلى علاقة يُعول عليها ضبط الحالة المزاجية، ولكن بعد هجر الشاى الأخضر، والجفاء الذى ساد علاقتى بأخيه الأكثر نضجا الشاى الأحمر.
يومها قال لى مبتسما: “لم يبقَ لكِ غيرى”. استسلمت له دون مجهود يُذكر منه، قدم نفسه لى ممزوجا بالحليب، كرجل يحاول أن يتحلى بالفضيلة ليجتذب فريسته. كان سوء تقدير منه فلم تَرُق لى يوما المبالغة فى الفضيلة، لم أجد معه اللذة التى جئت أنشدها. استأنف على قرارى بالرحيل مُدعيا أن اللبن هو السبب فى إفساد علاقتنا، “فلنتخلى عنه.. فقط أنا وأنت يا عزيزتى”، هكذا قدم دُفوعه.. تخلصنا منه، وكان محقا. أصبحت علاقتنا أقوى كان قادرا دوما على ضبط إيقاع مزاجى المتقلب بقليل من مراراته. يتقبل برضا هروبى منه إلى القهوة المحلاة باللبن، واثقا أنى سأعود لأنى أخشى التعلق بالقهوة. كان يعلم من البداية أنى أخشى التورط فى علاقات أكون فيها الطرف الأضعف. الطرف الأكثر تورطا، لن أقع فى غرام القهوة فأظل أسيرة للمسحوق البنى بقية حياتى. كان واثقا جدا كرجل يضمن زوجة فى فراشه. ثقة تتحول كثيرا إلى لا مبالاة بذلك الوجود، فيتسيد “الاعتياد” العلاقة.
تلك الثقة كانت سبب الجفاء، ساد الاعتياد، فهرب الشغف. علينا التوقف هنا لم تعد علاقتنا مجدية. دائما كان قرار الرحيل محل خلاف، كثيرون يرونه لحظة جنون، وأراه دوما لحظة تجلى عقلانية إلى أقصى درجة يجب اتباعها كالوحى المقدس تماما. وافترقنا.
ما العمل الآن بعد أن قطعت علاقتى بكل مصادر ضبط دفة مزاجى المضطربة، مسحوق البن يلوح فى الأفق، تفضله العائلة فاتحا فقد اعتدنا مزج القهوة باللبن، محاولة للهروب من براثن “الكِيف”. علاقتى مع القهوة باللبن كانت علاقة مستقلة تخللت كل العلاقات السابقة. كانت الصديق الوفى، أذهب إليه عندما يملأنى الضجر، أشكو فشل ما أو قلق يحيط بى، فتُنصت فى اهتمام، وبعد كل جلسة اعتراف اتركها، وأعود من جديد لعلاقتى بأحدهما.
قررت يومها أن تخرج علاقتنا من حيز الصداقة.. رأيت أن تكون علاقة واضحة ثنائية دون طرف ثالث، فدائما ما يفسد الطرف الثالث أى علاقة.. يوم سُئلت الأميرة “ديانا” عن سبب فشل زيجتها من الأمير تشارلز قالت: “إن هذا الزواج من البداية كان يضم ثلاثة أشخاص” فى إشارة منها إلى علاقة “تشارلز” بصديقته “كاميلا”.
فتنحى اللبن جانبا معلنا عن ظهور أول فنجان قهوة مظبوط على طاولتى، وهمس قائلا هنيئا لكِ، فقد أصبحت اليوم واحدة من أولئك الأشخاص الذين يحفظون للكوكب توازنه.