فارس بن حزام
على رغم متانة العلاقة الاقتصادية بين الخليج وألمانيا، إلا أن علاقتها مع إيران أعمق في نواح أخرى أهملتها دوله طوال عقود. الخليجيون، ما عدا دولة قطر، أبدوا انزعاجهم مراراً من لعب برلين دور الحماية والجسر للنظام الإيراني في عموم أوروبا، وقد توجته بالاتفاق النووي. والإهمال واقع من الجانبين؛ دول الخليج اكتفت اقتصادياً من ألمانيا، والأخيرة جنبت نفسها صداع المنطقة وتوترها السياسي والأمني.
عرفت إيران كيف تدير علاقتها بألمانيا، على رغم ضعف حجم التبادل التجاري مقارنة بالحاصل مع السعودية أو دولة الإمارات مثلاً. أفضل رقم تحقق لم يتجاوز ثلاثة بلايين دولار، 90 في المئة منها صادرات ألمانية، فيما حجمها مع السعودية ناهز التسعة بلايين دولار، 15 في المئة منها صادرات سعودية.
نجحت إيران في تعمقها أكثر داخل ألمانيا، وفي استفادتها من حجم المهاجرين. مضى على حكم ألمانيا عهود، وتناوبت على قيادتها أحزاب مختلفة، وإلى وقت قريب، بقيت درعاً أوروبياً سميكاً في وجه من يمسها بسوء، قبل أن تنتفض واشنطن، فشرّدت عقوباتها مستثمري ألمانيا في إيران، وذهبت طموحات كبريات شركاتها هباء منثوراً. ومع ذلك تواصل برلين جهدها، وهي تعرف جيداً أن الاتفاق النووي انتهى، ومحاولاتها الحالية ليست لإنقاذه، بل ترمي إلى تحسين وضعها في المفاوضات المقبلة، إن عقدت.
هذا التميز اللافت في علاقة البلدين، يعيده البعض إلى العرق الآري الجامع بينهما. يجوز الركون إلى هذا التفسير، حتى لو بدا علمياً، لكنه يليق بكسول لا يريد أن يتحرك. صحيح أن للعلاقة أبعاداً تاريخية تسبق تشكل الدول العربية، فقبل نحو 150 عاماً زار شاه إيران ألمانيا، وأسس علاقة متينة، اختبرتها الأخيرة مرتين؛ في الحرب العالمية الأولى ومن ثم الثانية. إيران احتاجتها أمام هجمة روسية وبريطانية تقضم من أراضي إمبراطوريتها، وألمانيا رأت فيها باباً كبيراً على المنطقة. ذاك من التاريخ، أما الحاضر فيقول إن إيران الخمينية ليست خياراً يتمناه قادة ألمانيا، إلا بما يذكرهم بمرحلة هتلر. أما في مسألة “العرق الآري”، فالجامع صحيح، والخلاف قائم، وكل بلد منهما يفسر العرق من زاويته؛ الألمان يرونه جنساً من البشر، والإيرانيون فسروه جنساً من الثقافة، وإلا كيف تكون آرياً قرشياً معمماً من آل بيت؟
ومع ذلك، حافظ البلدان على رابط “العرق الآري”، ولم يغب عن أدبياتهما السياسية والثقافية والتعليمية، وعندما يتحدث رئيس إيراني عن علاقة بلاده بألمانيا، يستحضر العرق المشترك، فعلها الإصلاحي علي هاشمي رفسنجاني والمحافظ محمود أحمدي نجاد. وليس بعيداً تاريخ العلاقة، تشير مصادر إلى أن استبدال اسم “فارس” إلى “إيران” في عام 1935، كان سعياً من الشاه إلى توطيد التقارب أكثر مع ألمانيا إبان حكم أدولف هتلر، وهو استعادة لاسم تاريخي كانت تسمى به البلاد في عهد الساسانيين قبل خمسة عشر قرناً. يمكن الإشارة هنا إلى أن مناهج تعليمية عليا في إيران مستوردة من ألمانيا.
والآن، أين دول الخليج؟
المبشر أن السعودية والإمارات استوعبتا خطأ الإهمال، وبدأتا التحرك في العمق الألماني في الفترة الأخيرة عبر مسؤولين أكفياء أنيطت بهم مهمة كبيرة، إذ أيقنتا أن القطيعة والاكتفاء بالاقتصاد ليسا كافيين لفهم وجهات النظر، وليس الهدف إبعاد برلين عن طهران، بل أن تستوعب ألمانيا مخاوف الخليج ورؤيته، وليس الاكتفاء بالعلاقة مع مكتب المستشارة والخارجية، بل بنخب البلاد السياسية والثقافية وبرلمانييها ومراكز أبحاثها وإعلامها، فتلك دوائر الاستثمار الحقيقي.