علي عقلة عرسان
ورشتا عمل ضد العدل والحق والعقل، انعقدتا بتدبير صهاينة، وقيادة صهاينة، ولمصلحة صهاينة، خلال الأيام الثلاثة من ٢٤ إلى ٢٦ حزيران ٢٠١٩ في المدينتين العربيتين القدس والمنامة بتزامن غير بريء.. الأولى ترأسها نتنياهو وحضرها ثلاثة مستشارين للأمن القومي في بلدانهم: جون بولتون “أميركا”، نيكولاي بتروشوف “روسيا”، ومئير بن شبات “كيان الإرهاب إسرائيل”.. والثانية ترأسها كوشنير وحضرها من لا يعنينا ذكرهم ولا ما يمثلون.
ورشة القدس ركزت ـ كما قيل ـ على “أمن المنطقة وإخراج إيران من سوريا وصولا للسلام..”.. لكن حقيقة الأمر هي لتنسيق مواقف وأدوار ومصالح يديرون صراعاتهم في سوريا، ويعززون وجودهم وتحالفاتهم واستراتيجياتهم على حسابها، ومن ثم فهم يحرمونها من استقلال تام، وسيادة شاملة، ومِن سلام وأمن ناجزين مستتبين، ومن وحدة أرض وشعب في مناخ يوفر الاستقرار، ويمكِّن من عودة المهجّرين والنازحين إلى ديارهم، والعمل من أجل إعادة الإعمار وشق طرق إلى الازدهار. فسوريا الشعب والوطن مسرح صراع لقوى تعمل على أرضها، ولثماني دول على الأقل منظور وجودها، هذا عدا عن تمركز الميليشيات والعصابات ومنظمات الإرهاب فيها.. وكل ذلك يجعلها ميدان حرب، ولا يقربها من السلم الأهلي ولا من السلام، ولا يغير من حقيقة أنها أصبحت مفتوحة لنزاعات دولية، واقتتال قوى سورية وعربية وإقليمية وأجنبية تعمل في أرضها.
يختلف المستشاران الروسي والأميركي في مواقفهما وتقييمهما للوضع، وحول تقييم دور إيران واتهامها بالإرهاب، ووجودها في سوريا، وحول مطلب “إسرائيل” بخروجها منها.. يتحاور المستشارون على إخراج إيران والقوات الأجنبية الأخرى من سوريا.. لكنهم عمليا يعززون وجودهم فيها، ويقومون بدور في الصراع الدامي الجاري فيها، ولا يذكرون احتلال “إسرائيل” للجولان العربي السوري المحتل، واستباحتها المستمرة للأجواء السورية، وقيامها بضرب أهداف سورية ـ إيرانية بحرية تامة.. ويتفقون على تعزيز التنسيق الأمني بين قواتهم، ولا سيما بين “إسرائيل” والقوتين الأعظم في الأجواء والأراضي السورية.. فإعلانات الاجتماع، والكلمات الافتتاحية فيه، ونتائجه هي تأكيد مطلق على التزام الأميركي والروسي بأمن “إسرائيل” الذي هو عمليا التزام بالسماح لها بالاحتلال والتوسع والعدوان من دون أي ردع أو تبعات.. وتأكيد أيضا على رفع درجة التنسيق الأمني فيما بينهم، للحيلولة دون وقوع أي صدام بين قواتهم التي تحرث الجغرافيا السورية.. وهذا يعني تعزيز الوجود وديمومته، وتقاسم النفوذ والتسلط على سوريا، ورفع أمن إسرائيل ومصالحها وأطماعها فوق كل الاعتبارات..؟! وفي الافتتاح الرسمي الذي جرى في القدس، الساعة التاسعة وثلاثين دقيقة من يوم الاثنين ٢٤ حزيران ـ يونيو ٢٠١٩، والمغطى بكثافة إعلامية، لاجتماع ثلاثة مستشارين للأمن القومي هم كل اللقاء، هو أمر ذو أهداف ودلالات منها: تدشين عملي لقرار ترامب إعلان القدس عاصمة لكيان الإرهاب والعنصرية “إسرائيل”، وتأكيد لأن ما نشهده من جذب ومد بين الدولتين الأعظم هو لتنسيق مواقفهما المُؤيدة للاحتلال الصهيوني وممارساته لا لتغييرها، وللإعلان عن تعزيز أمن إسرائيل ومباركة توسعها، ولمراعاة مصالح كل منهما في المنطقة.. وقد أكد المستشار الروسي باتروشيف في كلمته الافتتاحية أهمية أمن ورفاهية مليوني يهودي إسرائيليين هم روس ويتكلمون اللغة الروسية ويجب الحفاظ عليهم.
إن اجتماع المستشارين في القدس هو لمصلحة الصهيونية وكيانها العنصري الإرهابي “إسرائيل”، ولمصلحة الدولتين الأعظم، ولدعم النصاب نتنياهو.. وليس لسوريا فيه أية مصلحة، ولن يأتيها بسلام، بل بمرحلة جديدة من التوافق على تعزيز وجود الاحتلال والاستعمار والصراع فيها، ومتابعة إضعافها أكثر مما هي ضعيفة..
أما الورشة الاقتصادية الأميركية في المنامة التي تلغي السياسي الجوهري لصالح الاقتصادي الرديف، فهي ورشة تآمر رأسها الصهيوني العنصري جاريد كوشنير.. وهي ليست ورشة “سلام من أجل الازدهار” كما صيغت لها الشعارات وكتبت اللافتات، بل ورشة عمل لازدهار التآمر على الأمة العربية وقضاياها المَصيرية، وتآمر لتصفية قضيتها المركزية “قضية فلسطين”، وتمرير صفقة ترامب خطوة بعد خطوة قبل الإعلان عنها.. وهي كرنفال ساخر تنكري لمحاولة ستر عورات من يبيعون فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني للصهاينة من العرب، ويدفعون للصهاينة، فوق التفريط المجاني بحق تاريخي للأمة العربية وأجيالها في فلسطين، مليارات الدولارات لكي يقبلوهم شركاء في صفقة هي العار، صفقة حضرها شهود زور وتجار دماء وسلاح وسياسة ومواقف، وليست “فُرْصة” للنهابين والنصابين، صفقة قوامها الاقتصادي، كما نُشر كوشنير وقال فيها”.. استثمار بمبلغ 50 مليار دولار على مدى عشر سنوات. 27.5 مليار منها تستثمر في الضفة الغربية وفي غزة، و22.5 مليار آخر في التنمية الاقتصادية لمصر (9 مليارات)، الأردن (7.5 مليار) ولبنان (6 مليارات).. ويشكل لها مجلس أمناء دولي يقرر أي مشاريع يحول إليها المال. وتركز الخطة على مجال البُنى التحتية، المياه، الكهرباء، الاتصالات، السياحة، منشآت الصحة وغيرها”.. ومن أهدافها الرئيسة إنهاء قضية فلسطين بوصفها قضية شعب ووطن وتقرير مصير وحق عودة إلى وطنه التاريخي وتحويلها إلى “تسول باسم مساكين؟!”..
فيا سيد كوشنير، يا نسل شايلوك، وصهر ترامب، وحليف نتنياهو.. قبل أن تتباكوا على حال الفلسطينيين وتشحذوا باسمهم مالا، لا تقتلوهم، ولا تسجنوهم، ولا تشردوهم.. أنهوا الاحتلال، وارفعوا عنهم الحصار، ودعوهم يقطفوا ثمار زيتونهم وأشجارهم وحقولهم، ويأمنوا في بيوتهم.. إنهم في وطنهم وأنتم محتلون ومعتدون وقتَلَة ونهابون، إنهم شرفاء يدافعون عن أنفسهم وأرضهم وأنتم معتدون وعنصريون ومجرمون كذَبة.. فيا الله كم أنتم أشرار وفَجَرَة ومزيفون للحقائق والوقائع والتاريخ.. إنكم عار العالم ولا يواليكم ويداجيكم إلَّا منافقون.
إن من أبرز أهداف صفقتكم ونتائجها أيضا: “زجّ المنطقة في حروب لا تنتهي بين عرب وعرب، وعرب ومسلمين في إطار صراع حول “قضية قومية مركزية”، وزجهم شعوبها في حروب فتنة مذهبية بين “سنة وشيعة” يراد لها أن تحرق الوطن العربي والعالم الإسلامي.. تلك الفتنة التي يريد لها أعداء العروبة والإسلام أن تقضي على الدول والملل والشعوب والدين.. وتطلق يد الصهاينة والمتصهينين وحلفائهم في نهب المال والثروات العربية، وتمزيق الأمة، والسيطرة على الإرادة والقرار.. وتعزيز الوجود الصهيوني والمتصهين في المنطقة، وجعل “إسرائيل” قوة مهيمنة تفعل هي والولايات المتحدة الأميركية ما تشاءان.
إن ورشة العنصري الصهيوني كوشنير هي ـ كما أرادها ـ لبيع العدل والحق والقيم والتاريخ لأعداء الإنسانية وأعداء الحق والعدل والقيم الذين هم “الصهاينة وحلفاؤهم”، ولبيع فلسطين وشعبها وشهداء الأمة الذين استشهدوا على طريقها، وللتنازل عن المروءة والشهامة والانتماء والشرف والكرامة، وخيانة الوطن ونبذ الوطنية، وللدخول في صفقة إفلاس أخلاقي وإنساني وقومي ووطني، يعطى فيها فلسطين، والقدس، والجولان، ومزارع شبعا، وإقليم الخروب، وضفاف نهر الأردن، والمرتَهن من أرض مصر لدى “إسرائيل”.. يعطى كل ذلك للصهاينة.
إنه بيع للفلسطينيين وهم لا يباعون ولا يبيعون وطنا يمهرونه بالدم منذ قرن من الزمن، وبيع لمصير أمة تعرف كيف ترفض المقايضة على قضاياها ومصيرها وستنجح في زلزلة أعدائها وتجار القيم، وبيع لمقدسات إسلامية ومسيحية لأعداء الله والدين، وبيع لجغرافيا وتاريخ وحضارة، وإقبال على تخريب منهجي للوطن العربي والعرب والمسلمين بجهل وحماقة وصَغَار..
إن محاولات إلغاء الوجود الفلسطيني بأشكال وصيغ ومؤامرات ومناورات لن تجدي نفعا بالمطلق.. الفلسطينيون موجودون، وحقوقهم واضحة وثابتة ومعترَف بها في قرارات ومرجعيات دولية، ووراءها رجال ونساء يمهرونها بالدم.. وكل التفاف على ذلك عَتَهٌ وعماء، لن يكتب للعميان أن يقودوا المبصرين.