فوزي رمضان
صحفي مصري
مليون سؤال ليس له جواب، مسائل تبحث عن حل، اندهاش يحتضن استغرابا.. تعجب يرافق استفهاما: ماذا يعني غنى فاحش إلى درجة البطر مقابل فقر مدقع إلى درجة الذل، أقوياء إلى حد الظلم مقابل ضعفاء إلى حد الهوان؟ قال محدثي في حيرة: ما التحقت بعمل إلا وفشلت، وما دخلت مجالا إلا وطردت، ما أسست لتجارة إلا وخسرت، وما تمنيت شيئا إلا وسلبت، فهل أنا إنسان منحوس؟! أم هو الحظ والبخت والنصيب؟!
وبمنطق الحظ أراد صاحبنا السفر، فتأخر فأقلعت الطائرة فندب حظه التعس، وعلم أن ذات الطائرة سقطت بحرا فصاح بحظه السعيد.. وبمنطق الحظ، وضعت بذور في أرض بلاد تعشق العلم، وبالعناية زاد المحصول أطنانا، وذات البذور نمت في أرض بلاد تؤمن بالحظ والنصيب، فكان الفقر في الإنتاج وفي الحال وفي النفوس، وهل عدل الحظ المسار؟ وهل غيَّر الواقع؟
طبقا للوازع الديني، الحظ هو النصيب المحتوم تماما مثل الرزق، وكما هو المقدر في الحظ المكتسب، من جمال الوجه ومن التناسق والقوة البدنية، ومن الذكاء والعبقرية؛ فالحظوظ موزعة في الدنيا، مال أو علم أو زواج أو أبناء أو صحة أو فوز، كلها توزيع ابتلاء، عكس الآخرة التي هي توزيع الجزاء، ولم يذكر الله في القرآن كلمة الحظ إلا مقرونا بدخول الجنة (وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم).. أو التدليل على الكفار المترفين (إنه لذو حظ عظيم) في وصفه لقارون، أو لتحديد النصيب المادي المقدر (للذكر مثل حظ الأنثيين).
أما الحظ الدنيوي فما هو إلا اختراق سريع، وكسر للقواعد التي تفرض الجهد والاجتهاد لتحقيق الأمنيات، وهو نوع من التحايل أمام انهزام الذات. ولو كانت الدنيا حظوظا ما شيدت تلك الحضارات، ولا اخترق العلم آفاق السماء، ولا مخر عباب البحار، وما كانت تلك الاختراعات المذهلة في عالمنا.. الحظ ما هو إلا قوة لا يمكن التنبؤ بها، ولا يمكن السيطرة عليها.. بعضنا يربطها بالفرص العشوائية غير المرتبطة بالسبب، وبعضنا الآخر يربطها بطاقة خفية مرتبطة بالإنسان وأفكاره أو بتفسيرات متعلقة بالإيمان أو بالخرافات أو الوهم والجهل.
فليست السلاسل والقلادات في الأعناق تجلب الحظ، وليس انكسار الآنية الزجاجية أو رؤية الغراب تجلب حظوظ الإنسان أو تغير مصيره؛ فالأمر مرتبط بيده وبالجهد، والطاقة التي يبذلها في سبيل تحسين ظروفه اليومية.. حتى الحظ الحسن وإن كان مرتبطا بالتوفيق الإلهي فقد جاء نتيجة لحسن السلوك، وللذين غسلوا قلوبهم من الأدران والأحقاد، وانشغلوا بأحوالهم عوضا عن الانشغال بأحوال الناس.
الحظ الخارجي غالبا يكون نتاج البيئة التي نعيشها؛ فإن كانت جيدة فإنها تؤثر بشكل إيجابي في صناعة النصيب.. كذلك الإمكانات المادية ذات أثر فعال في مصير الإنسان، فكلما كانت أكبر جاء التعليم أفضل والتدريب أوفر، ومع ذلك لا تيأس إذا فقدت الظروف الملائمة، لا تحبط إذا فرض عليك العجز.. هيلين كيلر الأميركية العمياء والخرساء والبكماء تغلبت على كل المعوقات، وحصلت على الدكتوراه، وأصبحت معجزة من معجزات القرن العشرين.
الحظ من صنع الإنسان، وهو الفرق بين طريقة تفكير وأخرى، ومنهج حياة وآخر. ومستحيل أن يحالف الحظ إنسانا لطول الوقت؛ فجميع من نجحوا كانوا يستحقون ما نالوه، فليس هناك شيء اسمه متسابق محظوظ وآخر متعوس.. وليس للجاهل سوى الحظ، سواء في إخفاقه أو في تفوقه. ويستطيع الإنسان أن يصنع الحظ الجيد بالتفكير المنطقي في تحديد هدف واقعي سهل المنال، مع العمل الجاد والمخلص، وليس انتظار أن تمطر له السماء ذهبا، أو تتعثر قدماه في كنز مهجور، وإن صادف فتلك مصادفة من الاستثناء لا تخضع لمنطق العلم وتجارب المعمل.
الحظ لا يأتي من خلال انتظار المصادفة، الحظ مجرد إرادة تخضع لما يتخذه الإنسان من قرارات تحقق مصالحه وتجعله محظوظا. عندما جاء طوفان نوح قرر الحكماء فقط أن يفروا نحو السفينة وغرق غيرهم.. ولمن أراد الحظ السعيد يجب أن يتسلح بالمعرفة والثقافة والعلم، (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وأن يفتح الإنسان قلبه وعقله للناس، حيث يستفيد من تجاربهم ويتعلم من خبراتهم، أن يعمل مع الآخرين، وأن يتحمل المسؤولية، وأن يتحين الفرص المتاحة ويطورها.. مفتاح الحظ يكمن في العلاقات الاجتماعية الجيدة؛ فالعزلة تفقدك الفرص وتجلب الحظ التعس، كلما تعرف أكثر وتعلم أكثر تتحكم في حظك.
ولمن تعلق بالحظ، كيف تفسر امتحانا واحدا، ومنهجا واحدا وظروفا واحدة، وتفرز النتيجة المتفوق والمتوسط والمتعثر والراسب؟! صحيح أن يكون هناك عامل الغش والنصب والاحتيال والتدليس، وممكن النجاح بالمحسوبية والواسطة والتزوير، لكن لا هذا حظ ولا هذا نصيب ولا قدر، ولا قانون حياة ولا مواثيق تقدم، هذا مسار غير منطق الشرف والكفاح والعمل، فما للبسطاء إلا الاجتهاد، رغم كل الفساد، وليس للضعفاء من خيار سوى صناعة حظوظهم.