أحمد مصطفى
شهدت البشرية على مر تاريخ تطورها ابتكارات واختراعات، أغلبها في أدوات وآلات الصناعة (وقبلها التجارة والزراعة وغيرها) وكذلك إنجازات علمية وتقنية أثرت في مسار حياة البشر على الأرض. وفي كل مرحلة من مراحل ذلك التطور، وحين يكون الإنجاز التقني أو الآلي أو العلمي كبيرا، تثور المخاوف مما سيحدث للبشر نتيجة ذلك. واستمرت البشرية، وتطورت باستمرار مستفيدة من تلك الابتكارات والإنجازات والاكتشافات.
تزيد باطراد التحليلات والتعليقات وشبه الدراسات حول الذكاء الصناعي، وكيف أنه لن يترك عملا يقوم به البشر إلا ويحل فيه محل الإنسان، وربما بشكل أفضل وأكثر دقة. ويكاد المرء من متابعة تلك الآراء أن يخلص إلى أن تطور الذكاء الصناعي هو نهاية البشرية، وأن الحواسيب “الكمبيوترات” العملاقة ستهزم البشر وتحل محلهم، وتنهي بقاءهم على الأرض! وهذا شطط غير منطقي، مثلما هو الشطط في تصوير الروبوتات الذكية كأنها ستقضي على فرصة البشر في العمل. هذا مع الإشارة بأن الذكاء الصناعي لا يقتصر على الروبوتات الذكية التي تقوم بمهام تحتاج للتفكير، بل أيضا برامج حاسوبية “كمبيوترية” ذكية تقوم بالتحليل والتوقع، وكثير من مهام العقل البشري في مهن حتى كالصحافة والصيرفة والاستثمار وغيرها.
بداية، من الضروري التذكير بأن الآلة الذكية يصنعها بشر وبرامج الذكاء الصناعي يكتبها بشر، ومهما كانت قدرة الذكاء الصناعي فإن الآلة التي يعمل من خلالها تحتاج إلى صيانة وإصلاح إذا عطبت ـ وهذا ما يفترض أن يقوم به البشر الذي صنعوها وطوروها (حتى وإن تطلب ذلك فيما بعد تطوير برامج حاسوبية “كمبيوترية” تحدد الأعطال وتصلحها). ولا نريد الاسترسال فيما يشبه أفلام الخيال العلمي حين يصنع الإنسان آلة أو يطور برنامجا حاسوبيا “كمبيوتريا” يتفوق عليه ويهزمه ويستولي على مقدراته!! صحيح أن أغلب المبتكرات بدأت بقصص “خيال علمي” لكن لكل شيء حدود ـ بما في ذلك العقل البشري والذكاء الصناعي الذي يمكن أن يحل محله. يبقى أمر أساسي، لطالما جادل كثيرون بأنه ميزة للإنسان لا يمكن لأي آلة مهما كانت ذكية أو برنامج حاسوبي “كمبيوتري” مهما كان تطوره وتعقيده كذكاء صناعي، ذلك هو المشاعر والعواطف. والمفارقة أن الذكاء الصناعي الآن يتمحور حول ذلك ـ أي برامج للشعور والعواطف وردود الفعل “الطبيعية” لها من قبل البشر.
ولا نريد الخوض في سجال تقني، لسنا أهلا له ـ أو على الأقل ليس كاتب هذه السطور بمؤهل له ـ كخبرائه، لكن فقط نذكر بأن البشر الذين يطورون الذكاء الصناعي يغذون البرامج التي يكتبونها بنماذج من سلوكيات وطرق تفكير (وحتى مشاعر وعواطف) البشر. وتحتاج تلك النماذج والمعادلات إلى تحديث وتعديل مستمر (بالضبط كما يحدث مع برامج تشغيل الحاسوب “الكمبيوتر” وغيره من البرامج الحاسوبية “الكمبيوترية” التي تصدر الشركات المصنعة لها تحديثا كل فترة، ونقوم بتنزيله على حواسيبنا “كمبيوتراتنا” وأجهزة هواتفنا الذكية). ومرة أخرى، سيجادل البعض بأن الآلات الذكية وبرامج الذكاء الصناعي يمكن أن تقوم بتلك المهمة لتحرم البشر من “العمل” الوحيد الذي قد يتبقى لهم. دعونا نفترض أن كل هذا ممكن وأننا في قصة خيال علمي جامحة، وبالتالي كل ما يجري تخويف البشرية منه ممكن ونحاول الإجابة على السؤال الأساسي: إلى أي مدى يعني ذلك نهاية البشر كما نعرفهم الآن، أو حتى نهاية “العمل” البشري؟
شهدت البشرية على مر تاريخ تطورها ابتكارات واختراعات، أغلبها في أدوات وآلات الصناعة (وقبلها التجارة والزراعة وغيرها) وكذلك إنجازات علمية وتقنية أثرت في مسار حياة البشر على الأرض. وفي كل مرحلة من مراحل ذلك التطور، وحين يكون الإنجاز التقني أو الآلي أو العلمي كبيرا، تثور المخاوف مما سيحدث للبشر نتيجة ذلك. واستمرت البشرية، وتطورت باستمرار مستفيدة من تلك الابتكارات والإنجازات والاكتشافات. ومن الصعب تصور أن ذلك الإبداع البشري قد وصل إلى منتهاه بإبداع آلات أو برامج حاسوبية “كمبيوترية” “تبدع نيابة عن البشر”!! ومهما كان ما يجري الحديث عنه، أو تخيله من ابتكارات تقنية، حتى لو تميز الذكاء الصناعي بالقدرة على “معالجة” و”تنفيذ” المشاعر والأحاسيس فإن قضاء الآلة وبرامج الحاسوب “الكمبيوتر” على البشر يظل من باب “الشطط الفكري”.
مع ابتكار الآلة لتحل محل الإنسان في فجر الثورة الصناعية سادت مقولة “نهاية العامل”، مع ذلك أدى تطور الآلات إلى ظهور وظائف جديدة، وعلى العكس زاد عدد العمال مع تطور الآلات. وحدث الأمر نفسه مع تطور معاصر شهده أغلب من هم في جيلي. فمع انتشار الحاسوب “الكمبيوتر” وتطوره السريع ودخوله في كافة نشاطات البشر، زادت بشدة المخاوف من أن كل من يقومون بعمل يدوي/عقلي سيصبحون خارج سوق العمل ليحل محلهم الحاسوب “الكمبيوتر”. وما حدث أن التكنولوجيا وفرت فرص عمل ووظائف جديدة أكثر ربما مما كان يمكن توفيره باستمرار نمط النشاط البشري القديم. صحيح أن تطور الذكاء الصناعي ربما لا يوفر وظائف جديدة أكثر مما سيلغي من وظائف، لكن المؤكد أن نشاط البشر سينتقل إلى مستويات أخرى وأعمال “ما فوق الذكاء الصناعي” ليبتكر التطور التالي. قد يقل عدد الوظائف، وهو ما يحدث حاليا لأسباب اقتصادية صرفة تتعلق بالكلفة والربح، وقد تقل ساعات العمل وتزيد ساعات الترفيه، لكن الأرجح أن ذلك ليس نهاية البشرية، ولا حتى نهاية العمل البشري.
هناك بالطبع أمر آخر لا يمكن إغفاله، أن البشر سيظلون يقدرون أكثر ما هو إنتاج بشري وليس آليا. وبالطبع ستزيد كلفة كل ما هو بشري (أو كما كان يقال وقت الآلة “يدوي” أو وقت الحاسوب “الكمبيوتر” “حرفي” .. وهكذا). وسيظل من يستطيع تحمل الكلفة يطلب طبيبا بشريا بدلا من الروبوت ليجري له جراحة، وسيظل هناك مجال لفنادق الطبقة الراقية يعمل فيها بشر وليس روبوتات وتدار بالتواصل الإنساني المباشر وليس عبر برامج ذكاء صناعي تقود برد فعل المشاعر والأحاسيس.