خالد غزال
دفع خطاب الرئيس الأميركي ترامب التوتر في المنطقة الى درجة عالية من التصعيد. إذا كانت إيران شكلت الحلقة المركزية في الخطاب، إلا أن مفاعيله وآثاره تطاول مجمل المنطقة، وينال لبنان منها حصة غير قليلة. يطرح الخطاب ومعه الخطة الأميركية بمجملها أسئلة مقلقة عن مصير المنطقة والاستهدافات التي يرمي اليها، والحروب التي تبدو مفتوحة الى ما لا نهاية.
بداية، كيف تقرأ الولايات المتحدة علاقتها بإيران وكيف ترى الأخيرة هذه العلاقة. صحيح أن الرئيس الأميركي هدد قبل خطابه بإلغاء الاتفاق النووي وتصنيف الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية، لكن الخطاب لم يذهب الى هذا الحد، بل أشار الى تعديلات تطاول الاتفاق، أحالها الى الكونغرس للموافقة عليها. في المقابل، لم يصل الى تصنيف الحرس منظمة إرهابية، بل طرح إمكان فرض عقوبات اقتصادية، وهو أمر مختلف عن التصنيف الإرهابي. يشار في هذا المجال الى أن الدول الأوروبية المشاركة في الاتفاق النووي، تتوافق مع الموقف الأميركي في إدخال التعديلات وليس في إلغائه.
في الموقف الإيراني، يتحسس الإيرانيون حجم الأضرار التي تصيبهم نتيجة السياسة الأميركية الجديدة. فإذا كانوا ممتهنين إطلاق التصريحات المدوية بالحرب وتدفيع الأميركيين «دروساً جديدة»، بما فيها ضرب القواعد العسكرية الأميركية، فيجب التعاطي مع هذه التصريحات بصفتها «جعجعات من دون طحين». يعرف الإيرانيون أن الحرب، سواء من جانب أميركا أو من جانب إيران، لن تقع. فهذا التصعيد الذي يصل الى «حافة الهاوية» له وظيفة عودة الأطراف الى الطاولة ونسج اتفاقات جديدة.
إذا كان التحفظ واجباً في شأن اندلاع حرب أميركية – إيرانية، إلا أن الحرب الدائرة في المنطقة، خصوصاً في سورية والعراق، والتي تنخرط فيها إيران بقوة، إضافة الى تمددها الإقليمي في اليمن وتهديداتها لدول الخليج، هي الميدان الذي سيدور فيه الصراع الإيراني الأميركي. لا تخفي الولايات المتحدة توجهاتها في شأن انكفاء إيران الى حدودها الداخلية والكف عن الهيمنة على هذه الدول، فيما ترى إيران أن هذا الانكفاء سيكون بمثابة انتحار لأنه سيقطع الشرايين التي تتغذى منها، على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية. فالمنطقة العربية باتت بالنسبة لإيران المدى الحيوي، والحزام الذي يمنع اندلاع «الحروب الصغيرة» الى داخلها، والمجال الذي يحمي وحدتها المهددة من تفجر عناصر التقسيم المتمثلة في مجموعة من القوميات والإثنيات التي تعاني حرماناً من الحقوق واضطهاداً على جميع المستويات.
يترافق التصعيد الأميركي الإيراني مع تواصل عناصر التفجر في العراق مع المشكلة الكردية الناجمة عن قرار الانفصال، واستعصاء التوصل الى حل في المدى القريب بما ينذر بقيام حرب داخلية. كما أن المشكلة السورية لا تزال الحلول السياسية تتخبط فيها وسط تنازع روسيا وأميركا على تقاسم مناطق النفوذ. زادها توتراً الدخول التركي الى مناطق سورية، وسط تلويح صريح بإمكان اقتطاع أراضٍ، بما يذكر بمصير لواء الإسكندرون سابقاً.
لكن جديداً في السياسة الأميركية تناول هذه المرة الساحة اللبنانية من خلال التصعيد ضد «حزب الله» عبر تعيين اثنين من قيادييه كمتهمين بممارسات إرهابية ضد المصالح الأميركية، والتشديد على الموقف التصعيدي ضد الحزب. تزامن هذا الموقف مع تهديدات إسرائيلية بشن حرب على الحزب ستطاول مجمل لبنان وصولاً الى سورية. لا يجب التقليل من أهمية هذه التهديدات، فإذا كانت إيران سترغب في الرد على السياسة الأميركية، فقد تكون الساحة اللبنانية هي أحد المواقع التي يمكن للحرب أن تدور فيها.
إن مجمل الأحداث الدائرة، ومعها الخطة الأميركية تجاه المنطقة، وتواصلها مع الخطة الاسرائيلية الثابتة في التدخل في الدول العربية ونزاعاتها بهدف تفكيك هذه الدول، إضافة الى اللاعبين الآخرين خصوصاً تركيا، كلها تطرح أسئلة مقلقة حول مستقبل المنطقة. فهل دخلنا في مرحلة قوامها الإمعان في تفكيك الكيانات القائمة، أولاً على مستواها الداخلي، بما يعنيه من إعادة عناصر ما قبل قيام الدولة لتحل مكان الدولة المركزية القائمة حتى الآن؟ وهل دخلت المنطقة في مرحلة إعادة النظر بالكيانات على مستوى الجغرافيا السياسية، بما فيها رسم حدود جديدة تعدل ما سبق لاتفاقات سايكس بيكو أن رسمته؟ إذا كانت الأسئلة تعبّر عن هواجس مع بعض الوقائع، إلا أن المسار الذي تسير فيه المنطقة، وتدفع اليه القوى الاستعمارية الموجوجة والفاعلة على أرضه، من أميركية وإسرائيلية وروسية وإيرانية وتركية، لا توحي بالاطمئنان. مما يعني أن المنطقة سائرة بقوة الى الإقامة في الفوضى، وهي المقيمة فيها أصلاً، انما الى المزيد. فهل تعي الدول المقررة أن الفوضى ستكون أخطر عليها مستقبلاً من الدولة المركزية، وأن كلفة الوحدة تبقى أقل بكثير من كلفة التقسيم، سواء على المستوى الداخلي لدول المنطقة، أم على الدول الاستعمارية المقيمة؟ فالفوضى بحر سيغرف الإرهاب منه ويزدهر الى أقصى الحدود.