كيف تؤثر “دول كبار السن” في خرائط النفوذ العالمي؟
أحمد زكي عثمان
على النقيض من العالم العربي وإفريقيا، حيث يبرز تحدي ارتفاع نسبة صغار السن مقارنةً بباقي فئات السكان، تواجه مناطق أخرى في العالم، لها نفوذها الاقتصادي والسياسي والعسكري، أزمات تتفاقم يومًا بعد يوم بسبب ارتفاع نسبة كبار السن ممن يبلغون 60 عامًا أو أكثر.
ويتوقع ديموغرافيون أنه بحلول عام 2050، سيكون عدد الأشخاص البالغة أعمارهم 60 عامًا أكبر من عدد الأطفال في العالم، وهو تحول فريد لم تشهده البشرية من قبل. وسيشكل عدد كبار السن في تلك السنة ربع سكان العالم على الأقل (2.1 مليار نسمة). وإذا سارت المعدلات كما هي، فمن المتوقع أن يبلغ عدد كبار السن نحو 3.2 مليارات نسمة عام 2100، أي نحو 28.5 في المائة من عدد سكان البشرية المتوقع أن يلامس 11.2 مليار. (1)
لماذا القلق؟
ينظر كثيرون بقلق إلى هذه التغيرات الجذرية في التركيبة السكانية عالميًّا. وتحاول دول عدة تبني سياسات واستراتيجيات للاستجابة لهذه التحولات الديموغرافية العميقة، وآثارها الممتدة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا. فارتفاع نسبة كبار السن على ما عداها من فئات سكانية يعني أن هذه الدولة أو تلك دخلت في مرحلة «شيخوخة المجتمع»، ما يعني بالضرورة «انخفاض عدد السكان في العمر الإنتاجي».
ومن شأن هذه التحولات الديموغرافية أن تؤدي إلى اضطراب كبير على عدة أصعدة، خاصة في دول ومناطق تمثل ركيزة لاستقرار الاقتصاد العالمي، كاليابان وألمانيا والصين والمكسيك. فلهذه التحولات آثار لا تخطئها عين على النمو الاقتصادي العالمي، وعلى الأداء الاقتصادي للدول الغنية والدول النامية على السواء.
وتشمل الآثار المباشرة وغير المباشرة لـ«شيخوخة المجتمع» ارتفاعًا مطردًا في المخصصات المالية الموجهة للنظام الصحي لكبار السن (تأسيس مستشفيات ومراكز رعاية، وتوظيف أطباء وأطقم تمريض، وإنفاق على بحث علمي… إلخ). كما تشمل ضخ مبالغ مالية لدعم منظومات الرعاية الاجتماعية المخصصة لرعاية كبار السن.
كما تمتد آثار «انخفاض عدد السكان في العمر الإنتاجي» إلى النشاط الاقتصادي ككل، وكذلك في المجالات العسكرية. كما أنها تُفضي إلى تحولات حضارية وثقافية قد تقلب المجتمعات كبيرة السن رأسًا على عقب.
أرقام دالة:
تُمثِّل الحرب العالمية الثانية نقطة مفصلية في تركيبة سكان العالم. فخلال الحرب، قُتل نحو 60 مليون شخص (مدنيون وعسكريون) شكلوا نحو 3 في المائة من إجمالي عدد سكان العالم آنذاك (بلغ عدد سكان العالم في 1940 نحو 2.3 مليار نسمة).
لكن وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، طرأ تغير جذري على التركيبة السكانية في العالم. فارتفع عدد سكان العالم ارتفاعًا ملحوظًا. وشمل الارتفاع طفرة مواليد كبرى في الولايات المتحدة الأمريكية والقارة الأوروبية. كما ارتفع العمر المتوقع في جميع أنحاء العالم من 46 إلى 68 عامًا. ويتوقع أن يبلغ 83 عامًا في العقد الأخير من هذا القرن.
وقد تسارع في السنوات الأخيرة نمو نسبة الأشخاص الذين تجاوزوا الستين عامًا. فهم يزيدون بمعدل 3.2 في المائة سنويًّا. وهناك الآن ما يربو على 901 مليون نسمة أعمارهم 60 عامًا وأكبر (12 في المائة من سكان العالم). وقد كان العدد يبلغ نحو 607 ملايين في عام 2000.
وهناك سببان عمومًا لتفسير زيادة أعداد كبار السن يومًا بعد يوم. السبب الأول هو قلة معدلات الإنجاب، أو انخفاض معدلات الخصوبة الكلية في العالم. فخلال العقود الأخيرة، وبفعل أسباب مختلفة، منها ما له علاقة بارتفاع مؤشرات التنمية البشرية، أصبحت قطاعات كبيرة من الأسر في مناطق العالم المختلفة أميل إلى إنجاب عدد أقل من الأطفال .(2) والسبب الثاني دافعه التطور الصحي الكبير في العالم، ما أدى إلى ارتفاع «متوسط العمر المتوقع» أو (مأمول العمر).
لقد زاد هذا المتوسط عالميًّا ثلاث سنوات في الفترة من عام 2010 حتى 2015، فأصبح 70 عامًا بعد أن كان 67 عامًا. وعدا إفريقيا، لا يتفاوت نصيب مناطق العالم من ارتفاع «متوسط العمر المتوقع» تفاوتًا كبيرًا. إذ يبلغ أقصاه في أمريكا الشمالية عند 79 عامًا، ثم القارة الأوروبية عند 77 عامًا، وأمريكا اللاتينية 75 عامًا. والمتوسط يدور حول 72 عامًا في آسيا التي تحتضن نحو 60 في المائة من سكان العالم (4.4 مليارات من إجمالي 7.4 مليارات بتقديرات 2016).
وأخيرًا يبلغ المتوسط المتوقع في إفريقيا 60 عامًا. ومن المحتمل أن يرتفع المتوسط فيها إلى 78 عامًا بنهاية هذا القرن، إذ تمكنت القارة من إحراز نجاح ملموس في التصدي لأمراض خطرة كمرض نقص المناعة. (3)
وفي هذا السياق، تتوقع الأمم المتحدة أن يرتفع عدد كبار السن ممن يبلغون 80 عامًا فأكثر إلى 434 مليونًا بحلول عام 2050، أي أن عددهم سيتضاعف ثلاث مرات خلال خمسة وثلاثين عامًا (عددهم في 2015 نحو 125 مليون نسمة).
وعلى المنوال نفسه، تتشابه حظوظ المناطق في النسب المرتفعة لكبار السن (عدا إفريقيا). فبحسب الأمم المتحدة، من المتوقع أن يزيد عدد كبار السن في العالم بنسبة 56 في المائة في الفترة من 2015 حتى 2030.
والسمة ذاتها تنطبق على مناطق أخرى ذات نفوذ عسكري وسياسي واقتصادي وحضاري طاغٍ. ففي أوروبا أكبر نسبة من كبار السن مقارنة بعدد السكان الكلي. ويتوقع بحلول 2030، أن يشكل من يبلغون 60 عامًا فأكثر حصة معتبرة من السكان (29 في المائة). وتقترب أمريكا الشمالية من هذه النسبة ذاتها. وتشكل النسبة 17 في المائة في آسيا، وتنخفض دراميًّا إلى 6 في المائة في إفريقيا الشابة.
بيانات مجمعة توضح النسب المئوية لكبار السن في أربعة أعوام مختلفة
المصدر: الأمم المتحدة، إدارة الشئون الاقتصادية والاجتماعية، تقرير السكان في العالم، 2015. (4)
المصدر: الأمم المتحدة، إدارة الشئون الاقتصادية والاجتماعية، تقرير السكان في العالم، 2015(5)
انعكاسات متعددة:
لزيادة معدلات «شيخوخة المجتمعات» آثار جمة على عدة أصعدة، محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا. أول هذه الآثار يكمن في الحقوق الاجتماعية المتاحة لكبار السن. فارتفاع نسبة العجزة في أي مجتمع يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع تكلفة الحماية الاجتماعية، بما يعنيه هذا من بناء مؤسسات وتوظيف عاملين لرعاية العدد المتزايد من كبار السن. كما أن له أثرًا ماليًّا يتمثل في الارتفاع المستمر في أموال المعاشات التي تُدفع للمتقاعدين.
وهناك مظهر آخر يتمثل في رفع مخصصات الإنفاق على الرعاية الصحية الخاصة بكبار السن. ويشمل هذا رفع ميزانيات الرعاية الصحية، وإنفاق أموال أكثر لضمان جودة المؤسسات الصحية، والحفاظ على مستويات كافية في تمويل البحث العلمي بالقطاع الصحي، خاصة في مجال الأمراض التي ترتبط غالبًا بكبار السن كالزهايمر والقلب والسرطان. وجميعها أمراض تستلزم رعاية طبية فائقة ومتطورة. ويمثل الإنفاق المتزايد على الرعاية الصحية مصدر قلق للدول الغنية والفقيرة على السواء. ففي الولايات المتحدة، صاحبة أقوى اقتصاديات العالم، يتوقع أن يرتفع معدل الإنفاق على الصحة من 6.7 في المائة عام 2010 إلى 14.9 في المائة عام 2050، أي أكثر من الضعف.
والحالة مزمنة مثلا في الهند، إذ إنها لا تستطيع الوفاء باحتياجات الرعاية الاجتماعية والصحية للسكان (خدمات الضمان الاجتماعي تغطي فقط 10 في المائة من السكان في سن العمل). كما أنها تواجه تحديات كبيرة بفعل زيادة نسبة كبار السن، إذ يتوقع أن تقفز نسبتهم من 8 في المائة عام 2010 إلى 19 في المائة في 2050. (6)
وفيما يخص التأثيرات الاجتماعية، تبدو تحديات ارتفاع ما يسميه خبراء الديموغرافيا بـ«معدل الدعم المحتمل» (Potential Support Ratio) وهو حساب عدد من تتراوح أعمارهم بين 15 و64 عامًا، مقارنة بعدد من تتراوح أعمارهم 65 عامًا أو أكثر. ويحدد هذا المؤشر عبء الإعالة المُلقى على عاتق القوى العاملة الفعلية في المجتمع.
وكلما زاد المعدل، ارتفعت قدرة المجتمع على تحقيق نمو اقتصادي بسبب توافر اليد العاملة الشابة. والعكس يمثل التحدي، فانخفاض العدد يعني «انخفاض عدد السكان في العمر الإنتاجي». وتتصدر القارة الإفريقية القائمة بالمعدل، إذ يبلغ معدل الدعم 12.9 شخصًا عاملًا مقابل شخص كبير السن. لكن المعدل ينخفض في باقي مناطق العالم. حيث يبلغ في آسيا 8 أشخاص عاملين مقابل شخص كبير السن غير عامل، ثم ينخفض أكثر في أمريكا اللاتينية ليصل إلى 7.6.
لكن هذه الأرقام تنخفض انخفاضًا دراميًّا في القارة الأوروبية، إذ يبلغ المعدل الإجمالي 4، مع ملاحظة أن هناك سبع دول أوروبية ينخفض المعدل فيها إلى أقل من 3، فيما يبلغ المعدل حدًّا حرجًا في اليابان ليصل إلى 2.1، وهو أقل معدل في العالم. وتتوقع التقديرات أنه بحلول عام 2050 سينخفض المعدل إلى أقل من 2 في 7 دول آسيوية، و24 دولة أوروبية، و4 دول من أمريكا اللاتينية والكاريبي. (7)
ولترجمة هذه الأرقام ننظر إلى أوروبا مثلا، فأمام كل مواطن أوروبي يبلغ من العمر 65 عامًا أو أكثر هناك 4 مواطنين آخرين يعملون. المعنى هنا أن الأشخاص العاملين في هذه اللحظة هم من يمولون المعاشات والنظام الصحي والرعاية الاجتماعية لكبار السن.
وهذا المعدل من المتوقع أن ينخفض إلى شخصين عاملين أمام كل شخص يبلغ من العمر 65 عامًا بحلول عام 2050. ويعني هذا أن الجيل العامل الآن في أوروبا هو من يمول معاشات الجيل المتقاعد حاليًّا. لكن هذا الجيل العامل سيواجه مهمة عسيرة عندما يتقاعد في العقود التالية.
لكن أبرز الآثار على المستوى العالمي تكمن في التحول في القوى العاملة عالميًّا. فارتفاع نسبة كبار السن يعني بالضرورة انخفاض الأيدي العاملة. وحجم القوى العاملة في بلد ما يؤثر على القوة الاقتصادية للدولة وعلاقاتها مع العالم الخارجي.
وتبدو الأزمة مستحكمة في القطاعات التي تحتاج إلى اليد العاملة مثل الزراعة أو في القطاعات الصناعية كثيفة العمالة. وهذه أزمة تواجه دولا مؤثرة عالميًّا وإقليميًّا، تتراوح بين دول كبرى ودول متوسطة. وتذكر تقديرات أن اليابان، ثالث أكبر قوة اقتصادية في العالم، ستفقد نحو خمس قوتها العاملة حتى عام 2040. وبعد ذلك، سترتفع نسبة الفقد إلى ربع القوة العاملة لديها (24 في المائة) في العقدين التاليين.
آثار جيواستراتيجية:
بحلول عام 2035، سيبلغ سكان القارة الأوروبية ذروته (عند نحو 730 مليون)، ثم يبدأ لأول مرة في الانخفاض. وتقول تقديرات الأمم المتحدة إن أوروبا ستفقد 100 مليون نسمة من سكانها في الخمسين سنة المقبلة. وستنخفض في عام 2060 نسبة السكان في سن العمل من 67 في المائة إلى 56 في المائة. فيما سيشكل كبار السن أكثر من ثلث المجتمعات الأوروبية في عام 2050.
ولهذه الأرقام دلالات، فمن ناحية ستعمق أكثر الانقسامات بين أوروبا الغربية الأغنى والأقدر حاليًّا على مواجهة التحولات الديموغرافية من بلدان شرق أوروبا ووسطها. وفيما يتعلق بأزمة الأيدي العاملة، فدول غرب أوروبا أقدر على جذب العمالة، سواء كانت أوروبية أو غير أوروبية. لكن الدول الأوروبية الأفقر لا تملك إمكانيات كثيرة لجذب العمالة. من هنا يبدو المستقبل غائمًا لدولة مثل رومانيا يُتوقع أن تفقد 40 في المائة من قوتها العاملة حتى عام 2060.
من ناحية أخرى، ستؤثر هذه التحولات على ديناميات القوة الأوروبية فيما بين قواها المركزية: ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا. فشيخوخة المجتمع الألماني قد تهدد التفوق الاقتصادي الألماني، ووضع برلين الرائد في التصنيع في القارة الأوروبية.
تحولات عسكرية:
حجم السكان هو واحد من أهم العوامل المركزية في تحديد قوة الدولة عسكريًّا. ومهما بلغ التطور في التكنولوجيا العسكرية، يظل عدد الجيش عاملا رئيسيًّا في قياس قوة المؤسسات العسكرية. وتواجه أوروبا تحديات أمنية جسيمة، خاصة مع موجة الهجمات التي شنتها عناصر راديكالية على عدد من العواصم الغربية.
هنا يظهر تحدي التحولات الديموغرافية، وانخفاض أعداد الشباب المؤهلين للخدمة العسكرية في هذه البلدان. وتبدو في هذا السياق الإجراءات التي اتخذتها بعض الدول غير كافية، مثل: رفع سن التقاعد عمومًا، وتطوير التكنولوجيات العسكرية، وتقديم حزم من الحوافز لمن يلتحق بالخدمة العسكرية.
وكل هذه إجراءات لا تجيب على السؤال النهائي: من سينضم للخدمة العسكرية في القارة الأوروبية؟ (8). بعض الدول التي تعاني مشاكل عويصة في نقص فئة صغار السن أعلنت اقتناعها بأن المهاجرين هم السبيل الوحيد للخدمة العسكرية. في ألمانيا مثلا التي يواجه جيشها نقصًا في المتخصصين في مجال التكنولوجيا والطب والملاحة الجوية، أعلن الجيش فيها صراحة أن «الجيش الألماني يُعوِّل بقوة على المهاجرين». (9)