العراقيون والبكاء على أطلال السيادة
إياد العنبر20 مارس 2022
عند الحديث عن موضوع السيادة، لم نعد بحاجة إلى العودة إلى تعريفها، ولا البحث عن معناها عند منظريها “جون بودان” و”توماس هوبز” و”جروسيوس” و”جان جاك روسو”، لأنّها أصبحت من القضايا التي يتعايش معها المواطن في تفاصيل حياته العامة. وعندما يستشعر فقدانها أو وجود خلل فيها، ينعكس ذلك على كثير من ملامح دولته التي تكون منتهكة السيادة.
وفي بلدٍ مثل العراق، بات انتهاك سيادته المانشيت الرئيس في نشرات الأخبار ومادّةً دسمة لمواقع التواصل الاجتماعي، وقد أصبح موضوع السيادة نسمع به، ولكن لا نتلمّسه مقترناً بعلاقتنا مع دول أجنبية، ولا باعتباره السلطة العليا والمطلقة التي تنفرد بعلوّ إرادتها على إقليم الدولة ومواطنيها. فمَن يريد أن يقصف العراق بصواريخ باليستية، أو يتوغل عسكرياً فالحدود مفتوحه أمامه، ما دام بعض مِن أبناء “العراق” يتولى مهمّة تبرير التدخلات والاحتفال بها، ووصف الدول المعتدية بأنها تدافع عن أمنها القومي! حتى وإن كان ضحايا الهجوم “سيادة العراق” و”ضحايا مدنيين”!
قصفٌ بصواريخ إيرانية على مدينة أربيل، توغلٌ عسكري تركي يتجاوز الحدود بين البلدَين وينشئ قاعدة عسكرية من دون اتفاق ولا مواقفة الحكومة، قطع المياه عن العراق خلافاً للاتفاقيات والأعراف الدولية؛ تلك هي ملامح واضحة لانتهاك صارخ لِسيادة العراق والتعدي على أمن الدولة ومواطنيها، والمفارقة هي أن حكومتنا تكتفي بردود دبلوماسية خجولة لا تتلاءم مع خطورة الاعتداء.
عندما يكون الشغل الشاغل لِلحكومة هو الحصول على الولاية الثانية، وعندما يكون الرهان على الوساطات الخارجية لحلّ مشكلة تقاطع التحالفات السياسية لتشكيل الحكومة، يكون السكوت عن انتهاك السيادة هو الثَّمن الذي يمكن التضحية به في سبيل ضمان تحقيق تلك المكاسب السياسية!
قالها المتنبي في إحدى قصائده:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيه .. ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ
فعندما يخرج لنا رئيس وزراء سابق في لقاء تلفزيوني، ويتحدَّث بكلّ صراحة، وبنوع من التفاخر الوقح، بأنّه تلقى اتصالاً هاتفياً من إحدى القيادات العسكرية في دولة جارة لِلعراق، يخبره بضرورة الذهاب إلى دولة أخرى ويحمل رسالة بخصوص موضوع محدد. فأيّ معنى لِسيادة الدولة يبقى إذا كان رئيس وزرائنا يقبل بأن يكون ساعي بريد بين دولتَين مِن جوار العراق!
وكيف يمكن أن يَفهم معنى السيادة، مَن وصل إلى منصبهِ في الحكم بموافقة وإمضاء دولةٍ أجنبية! وكيف يفهم معناها، مَن يعتقد أن بقاءه بالسلطة مرتهن بِتنفيذ أجندة تلك الدولة. ولا أعتقد أن معنى السيادة يكون متداولاً في نقاشات زعامات سياسية تعتقد أنَّ الولاءَ يجب أن يكون لِلمذهب والطائفة والقومية وليس لِلهوية الوطنية!
الفَهم الأكثر دقةً ووضوحاً لِكلمة السيادة عند سياسيي العراق، هو ارتباطها بالوزارات التي يفترض أن يكون عنوانها سيادية، لكنّهم لا يفهمون (الوزارات السيادية) مِن منظور وظيفتها، وإنما بقدرتها على زيادة مواردهم الاقتصادية وتوسيع سيطرتهم على موازنة الدولة! عدا ذلك، فإنَّ كلمةَ (سيادة) العراق لا تعني لهم أيّ شيء!
وعندما تبتلي الشعوب بطبقةٍ حاكمة تُشرعن نفوذ الأجنبي، وتحاول أن تبرر التدخلات الخارجية وتعتبرها لمصلحة الطائفة أو المذهب، بالتأكيد لا يبقى أيّ معنى لِلسيادة. لا بل تصبح هذه المفردة تثير حساسية الكثير مِن السياسيين الذين يعدونها كلمة غريبة عن قاموسهم السياسي.
في سجالات النخب السياسية والإعلامية، موضوع السيادة مختلف عليه، في حين يفترض أن يكون هو من البديهيات التي ترتبط بمفهوم الدولة. لكن بما أننا نعيش في كيان سياسي هو أقرب إلى واقع اللادولة من وصف الدولة، لذلك يصبح مفهوم السيادة بحاجةٍ إلى إعادة تأمّل مِن ناحية واقعيته. إذ عندما تريد انتقاد تدخلات أجنبية من إيران، فيكون الجواب جاهزاً: وهل تركيا لا تتدخل، وهل أميركا لا تتدخل، وهل دول الخليج لا تتدخل في العراق؟! على وفق هذه الردود يحاول كثيرٌ من السياسيين والنخبويين تطبيع التدخلات الخارجية باعتبارها وضعاً طبيعياً، إذ بما أن طرفاً سياسياً يخضع لإرادة دول إقليمية ويأتمر بأوامرها، فلا يمكن انتقاد الطرف الآخر الذي يمارس الفعل نفسه. فالتدخلات، على وفق هذا المنطق، تكون مقبولة ومبررة!
تحالف سياسي يحمل عنوان (السيادة) لم تتفق أطرافه، التي كانت في السابق تخون بعضها الآخر، إلا بعد وساطات خارجية ساهمت بتشكيل هذا التحالف، والذي جرى على أساس الاتفاق على تقاسم المناصب السياسية. في قبال ذلك، قوى سياسية لم تجتمع في تحالف لتشكيل الحكومة إلا بوساطات واجتماعات تجري برعايةٍ خارجية، وكانت تسوق هذه الرعاية بدعوى حماية حقّ المكون الأكبر أو الأصغر!
السيادة هي التجسيد الفعلي لمفهوم الدولة في الحفاظ على أمنها القومي، ولا يمكن أن تكون خاضعةً لتجاذبات سياسية ومزاجات زعامات حزبية. ولا يمكن بأيّ حال أن تطغى الخلافات الداخلية وتكون مانعة لبروز موقف وطني واحد تجاه أمر يمسّ السَّلامةَ الإقليمية وأمن واستقرار مواطني الدولة، أو أن تُغلب الصراعات الداخلية على مواجهة خطر خارجي.
كلُّ شيءٍ في العراق بات منتهَكاً، هذا هو الواقع. لكنَّ ما يجعلنا نشعر بالخيبةِ ليس غياب الرادع لهذه لانتهاكات لِسيادة الدولة على المستوى الداخلي والخارجي، وإنّما التبريرات الساذجة التي يسوقها جوق المطبّلين التابعين لِقوى سياسية، والتي تريد منّا تقبّل هذه الانتهاكات باعتبارها موضوعا طبيعيا، ومن ثمَّ تدخلات دول الجوار الإقليمي على أنّه قدر محتوم على العراق ويجب تقبّله! وبالنتيجة تكون أصوات الدفاع عن سيادة العراق وحقوق مواطنيه وكرامة شعبه، أصوات نشاز في ظلّ هذا التردي والانحطاط في الخطاب السياسي.