د.عامر صالح
تلك هي الحرب عندما تندلع شرارتها الأولى لا يمكن التكهن بسقف زمني لنهايتها مهما بلغت حنكة وقدرات الأطراف المتنازعة, وهنا يتوقف الذكاء الأنساني ونزوعه نحو الحفاظ على النفس الأنسانية, ويسود خطاب النزعة العدوانية المتمادية في البحث عن انتصارات وهمية لأخضاع الطرف الآخر في الصراع من اجل اخضاعه قسرا في اطار عدم توازن قوى اطراف الصراع, وهنا أيضا حيث تتمادى غريزة القتل والتخريب ذات الطابع الحيواني والمجردة من كل بعد انساني ولكنها تستخدم العقل واللغة والخطاب في تسويق العدوان واعتباره مقدسا وان هناك اهدافا نبيلة يدعى تحقيقها ولا يفهمها ويستوعبها إلا من اعلن الحرب, وان الخراب الشامل والهمجية التي ترافق العدوان ونسف البنية التحتية الأقتصادية والاجتماعية وتهجير السكان ونزوحهم ما هي إلا اعراض بسيطة وجانبية لطموحات من اعلن الحرب واشعلها!!!.
الحرب الروسية ـ الأوكرانية هي ليست حرب نظم سياسية ـ اقتصادية متصارعة ومختلفة جذريا على نسق صراعات النظام الرأسمالي والنظام الأشتراكي السابق او هي حرب معسكرين مختلفين ايديولوجيا وسياسيا واقتصاديا, بل حرب زعامات رأسمالية أوليغارشية ناشئة متمثلة بروسيا بعد انهيار المعسكر الأشتراكي ورأسمالية احتكارية امبريالية متمثلة بالمعسكر الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية, وبالتالي نحن امام حرب زعامات لقيادة العالم والأنفراد به عبر احياء نماذج من الزعامات الأمبراطورية التي عفى عليها الزمن, تتخذ من الخطاب القومي الماضوي سبيلا لأحياء مجدها والسيطرة على دول صغيره نسبيا كانت تدور في فلكها كما نحن عليه الآن في الحرب الضروس بين روسيا وأوكرانيا.
في روسيا وبعد العام 2000 بعد سيطرة بوتين رجل المخابرات السوفيتية الروسية السابق على دفة الحكم وازاحة يلتسن, بدأت حقبة جديدة ذات طابع ليبرالي مؤقت كان قوامها الأولي اعجاب بوتين بالتجربة الغربيىة وطموحاته للأنظمام الى العالم الأوربي اقتصاديا وسياسيا, بل ان تصريحات بوتين السابقة في مقترحاته للأنظمام الى حلف الناتو والى الاتحاد الأوربي كان مصدر اعجاب وسعادة للقيادات الأوربية الغربية وحتى امريكا, بل انهم اليوم في صدمة من امرهم كيف اختلف هذا الرجل كليا الى معاداة المعسكر الغربي والأقدام على الحرب في اوكرانيا بمبررات الحفاظ على الأمن القومي الروسي والدفاع عن حقوق الأقليات الروسية في اوكرانيا, بل والأعلان عن استحواذ على اراضي اوكرانية واعلانها جمهوريات مستقلة عن اوكرانيا بوصاية روسية.
لقد عانت القيادة الروسية بعد عام 2000 وعلى رأسها بوتين من فراغ ايديولوجي ولم تعد تمتلك تلك الرؤى التي امتلكها من سبقه من القيادات الشيوعية المتمرسة في الحفاظ على السلم العالمي في اطار صراعها مع العالم الغربي, وبهذا أخليت الساحة الفكرية الروسية للتوجهات القومية اليمينية والشوفينية وعبر تحالفاتها مع قوى اليمين الاوربي والامريكي في تحالفات غير نزيه ومشوهة كان قوامها التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان وحتى العبث في ديمقراطياتها عبر دعم قوى اليمين القومي للوصول الى دفة الحكم, ولكن اللعبة الروسية تصتدم بانعدام التجربة السياسية في الداخل الروسي وفوضى احزابه الموالية في معظمها للزعيم بوتين مع هامش
من المعارضة الهشة لا يقوى على خلق واقع جديد يتعايش مع حقبة مابعد الاتحاد السوفيتي والاستفادة قدر الامكان من التجارب الغربية في اجادة فن ادارة الحكم على اساس من قوى ذات صدق نسبي في المعارضة وقوى اخرى تتمتع بقدر من النزاهة في الحكم.
الجزء الآخر من الحكاية ان العالم الغربي وبأرادة روسية محضة دخلوا في عملية الأحتواء المتبادل في اطار الأقتصاد الرأسمالي العالمي حتى باتت روسيا منذ اكثر من عقدين جزء منه وبالتالي شكل الاقتصاد الروسي جزء من منظومة الاقتصاد العالمي الرأسمالي الى جانب الصين التي سبقته منذ السبعينيات, وهنا شكل الأقتصاد الروسي في نفطه وغازه وصناعاته عصب الحياة في اوربا, كما شكل احتمالات الأستغناء عنه في اطار العقوبات الامريكية والاوربية احدى ابرز المعضلات لأوربا, وكان يفترض بروسيا ان تدير الصراع على اساس من المصالح المشنركة بعيدا عن تشنجات الخطاب المؤذي للمصالح الروسية قبل غيرها, ولكن الخطاب القومي المتشنج مؤذي بأنفعالاته للمصالح الروسية قبل غيرها, رغم ارتداته على المصالح الاوربية بدون شك.
الذي غذى الصراع الأوربي ألأمريكي ـ الروسي ليست المشكلة الأوكرانية والدفاع عن الأقليات الروسية فتلك واجهات للصراع لا غير وأختيرت اوكرانيا كمنطقة لأدارة الصراع الجيوبوليتيك مع الغرب ولكن الديمقراطيات الهجينة التي نشأت في اوربا الشرقية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي شكلت بؤر متوترة شبه دائمة بين الغرب وروسيا عبر انحياز اوربا الشرقية الى الغرب وامريكا دون حساب لعواقب هذا الانحياز في ضوء الظروف التاريخية والحاضرة الصعبة ودون اكتراث لخصوصية العلاقة التاريخية مع روسيا, وبالتالي نحن امام تشابك من الانفعالات السياسية لأجادة فن الصراع مع الخصوصية الجيواثنيبوليتيك, وهنا يشكل نموذج الرئيس الأوكراني احدى اكثر النماذج عدواة مع الماضي القريب واشكالية الخلاص منه عبر سيكولوجيا العداوة المطلقة مع الروس.
وعلى خلفية ذلك بالتأكيد شكل تمدد حلف الناتو على مقربة من روسيا اليوم في ظل هواجسها المشروعة وغير المشروعة احدى اهم دوافع روسيا في الاندفاع نحو الحرب ضد اوكرانيا, ولو كانت روسيا عضوا في الناتو لما حصل ذلك, ولكن تعمد الخطاب القومي والانكفاء حول الذات القومية المتطرفة هي احد عوامل اشعال الحروب في التاريخ. وللحقيقة والتاريخ نقول لا يمكن للديمقراطية ان تلد معوقا كرئيس اوكرانيا المراهق السياسي, ولا يمكن لروسيا التاريخ والحضارة والأدب والفن ان يتصدر بوتين مشهدها السياسي لكي يلوث تاريخها في ارتكاب حروب عبثية لا مصلحة للروس فيها.
بلغت الخسائر الأوكرانية جراء تهديم البنية التحتية الى ما يقارب 500 الى 600 مليار دولار والى جانب هجرة ونزوح ما يقارب 12 مليون نسمة من السكان في داخل اوكرانيا وشتات بقاع العالم, وقد اصبح العالم اشد قطبية مما كان عليه, وأن دول العالم اليوم تهرول للأنظمام الى حلف الأطلسي خوفا من تداعيات حرب بوتين على اوكرانيا وبات العالم الغربي بفضل بوتين اكثر وحدة وتنسيقا لمواجهة روسيا, فمباذا افلح بوتين, وهل هذا صحيح ان كل ما جرى من اجل ” اقليم الدنباس ” لأنقاذه من السياسات الشوفينية والعنصرية التي اوجعت الأقليات الروسية هناك, أم أن حسابات الحقل غير حسابات البيدر, ام ان اوهام الأنتصار تدفع القادة لمزيدا من الهزائم. الخسائر الروسية جراء المقاطعة والحصار الغربي عليها وفرض العقوبات بالتأكيد سيفضي الى مزيد من تهالك البنية التحتية الروسية ويشدد من عزلة روسيا عن العالم, فنافذة روسيا الأقتصادية هو العالم الخارجي وبالتالي سيصيبها من الخسائر ما يكفي لعرقلة نموها الأقتصادي, وهي بأمس الحاجة للعوائد المالية من الخارج, نعم الغرب سيتضرر من تلك العقوبات ولكن مكره اخاك لا بطل.
الأدعاء الروسي انه يعرف كل شيء عن الحرب وانه يتوقع كل ما يصدر من السلوك الغربي اتجاه روسيا هو ادعاء كاذب, الى جانب هل يعرف بوتين ماذا يحل بالعالم من ازمة غذائية وأفقار لمناطق العالم المختلفة بل وتجويع بلدان عدة, واذا كان بوتين يعرف ذلك فأي انسان هذا يريد نهاية العالم من اجل دنباس, ولكن بالتأكيد نرجسيته المرضيه عمته لرؤية ما يدور من حوله, فهو لم يرى إلا نصر قريب وسجود غربي بين يديه يباركه بالأنتصار على اوكرانيا !!!.
لقد وقعت القيادة الروسية وعلى رأسها بوتين في متاهات” الأوهام الأيجابية” بأنه هو ومؤسساته ومن يدور حوله قادر على النصر المبين خلال اسبوع او اسبوعين, ومن هنا أتت التسمية بأنها عملية خاصة, ولكنها على ما يبدو انها عملية عامة حين اندلاعها اشترك العالم كله فيها, ولا نعتقد ان بوتين كان يتوقع حجم الأستجابة العالمية للحدث, بل كان يتوقع ان العالم سيغمض عينيه ويبارك له النصر, تلك هي منظومة الحكم الروسية حيث الاوهام متأصلة في سلوك مؤسساتها المبتلاة بداء العظمة وسرية صنع القرار المناط بشخص ” قائد الضرورة ” وبالتالي فأن القرار الروسي لا يصاغ في اروقة المؤسسات الديمقراطية بل يصاغ في اروقة حفنة من المتعاونين مع بوتين ومن شلته السياسية والعسكرية.
ان الأفراط في التفاؤل الروسي بحسم الحرب لصالحه هو افراط مرضي يعكس محدودية العقلية الروسية في ادارة الصراع في عالم متغير كليا عن عالم المعسكرين السابقين الاشتراكي والرأسمالي, فحتى الصين التي تدعم وتساند روسيا في الخفاء والعلن لا يكمن لها ان تفرط كليا بمصالها من اجل روسيا, فالصين اليوم ام الدنيا بأقتصادها وفكرها وقيادتها للعالم اقتصاديا وسياسيا.
لا يبدو ان الحرب الروسية الأوكرانية تقترب من نهايتهات بفعل تضخم الأنا لدى طرفي النزاع, فالطرف الأوكراني يراهن على الدعم الغربي له في دحر القوات الروسية, والروس يراهنون على التاريخ في صنع انتصاراتهم, وهذا يجسد الاوهام الايجابية لدى الطرفين في الانتصار وكلاهما سيسبح في مستنقع الهزيمة الى حين الصحوة وتدارك خيار الفناء. كلا الطرفين الروسي والاوكراني سيقعان ضحايا قيادات مريضة, وبالتالي فأن الخلاص من القيادة الروسية المتعجرفة ومن القيادة الأوكرانية المراهقة يشكل مدخلا لازما لأحلال السلام والأمن في المنطقة وفي العالم.
ان مخيلة بوتين المريضة لم ترى ان هناك حربين عالميتين الأولى والثانية والخراب فيهما اكثر مما يتوقع بوتين في انتصاره على اوكرانيا, كما ان هناك معاناة انسانية لشعوب فقدت استقرارها, وعليه فأن فشل بوتين في اوكرانيا لازم وضروري وعلينا ان ندعم هزيمة روسيا في اوكرانيا كي لا نحيي الأمبراطوريات البائدة والمتعفنة بواجهات مريضة من خلال ابعاث الأعراق والشوفينيات المتكلسة والمتحجرة, كما اننا نعيب على ديمقراطيات اوكرانيا الهزيلة والتي تفتقد الى الذكاء والشجاعة في ادارة الصراع مع الجوار الروسي الذي يستدعي من القيادات الاوكرانية الحكمة في التعايش مع مخلفات الماضي بعيدا عن الأنحطاط السلوكي في التعامل مع روسيا, فروسيا بأمكانها ان تكون حاضنة للجوار بعيدا عن الاحتقان والعداواة المفتعلة.