2

بغداد.. المدينة التي لا تشيخ

إياد العنبر29 مايو 2022

بغداد ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها

أنتمي إلى جيل يسمع حكايات عن مدينة بغداد وألقها، وما يسرده جيل خمسينيات القرن الماضي عن جمال شوارعها وأزقتها وملامح التحضر فيها، والذي بلغ ذروته في السبعينيات، لم يشهدها جيلي الذي فتح عيونه على بغداد في زمن الحروب والفوضى والخراب! 

بغداد التي أجمع المؤرخون والرحالة والبلدانيون على وصفها بأنها: “أم الدنيا، وسيدة البلاد، وجنة الأرض ومجمع المحاسن والطيبات، ومعدن الظرائف واللطائف. ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها: سعة وكبرا وعمارة، كثرة مياه، وصحة هواء” (ميخائيل عواد، صور مشرقة من حضارة بغداد في العصر العباسي).

وبغداد التي قرأنا عنها في تاريخ البلدان لليعقوبي، ومقدمة تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ومعجم البلدان لياقوت الحموي، ومؤرخين ورحالة، اختصر وصفهم لها الإمام الشافعي بقوله مع رجل يحاوره: أدخلت بغداد؟ قال: لا، فأجابه الشافعي: لم تر الدنيا ولا الناس. 

بغداد في ألف ليلة وليلة وكتب التاريخ لم يبقَ منها إلا اسمها، أما بغداد اليوم فهي عبارة عن عشوائية كبيرة، لا علاقة لها بمعالم وأوصاف المدنية والحضارة بأي علاقة. وكأنما من أتى إلى السلطة بعد 2003 تعمدوا الإهمال والخراب لبغداد، ويبدو أنهم كانوا ناقمين على أحيائها وشوارعها وأزقتها! لم يتركوا معلما إلا عملوا على هدمه أو تحويله إلى أطلال ومكب للنفايات والتجاوز عليه! ومن يريد دليلاً على ذلك فما عليه إلا أن يتجول في شارع الرشيد من بدايته، وصولاً إلى المدرسة المستنصرية. 

عايشت أيام الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق بعد غزو صدام للكويت في 1990، وقد يكون هو بداية الخراب الذي شهدته بغداد. ولكن لم يكن أحد يتوقع أن يستمر الخراب على يد الطبقة الحاكمة بعد 2003، التي أبقت على تقسيم الأميركان لبغداد إلى (منطقة خضراء) وهي منطقة الحكومة ورجالتها، وإلى (منطقة حمراء) تشمل بقية أحياء بغداد. ولم يقفوا عند هذا الحد، بل باتت مظاهر أحزاب السلطة تسيطر على أهم مناطق بغداد وتتخذها قصورا لهم ومقرات لأحزابهم، وعملوا على تشويهها بالكتل الكونكريتية والمظاهر العسكرية. 

لو حاول وخطط كل أعداء بغداد، من هولاكو إلى كل الغزاة الذين مروا على هذه المدنية، أن يدمروا كل ملامح الجمال في بغداد لما استطاعوا أن يصلوا إلى ما وصلت إليه من خراب ودمار وفوضى على يد من حكم بغداد منذ ثمانينيات القرن الماضي ولحد يومنا هذا، رغم تغيير نظام الحكم. فمن يسكن بغداد أو يتجول في شوارعها، يتلمس الإهمال والخراب المتعمد في كل ملامح المدينة! حتى بات المواطن يتطبع مع كل ذلك الخراب ويعده مسألة طبيعية! 

ومقارنة بعواصم الدول المجاورة للعراق، لا يمكن وصف بغداد باعتبارها مدينة! فهي عبارة عن عشوائية كبيرة يسكنها أكثر من ثمانية ملايين نسمة. وملامح الفوضى تجدها في كل مكان من بنايات مشوهة وشوارع متهالكة، ومناطق يخيم عليها البؤس والفقر والحرمان. وبمجرد دخولك إليها توحي لك مداخل المدينة أين وصلت مراحل الخراب والدمار والإهمال في هذه المدينة!

كيف لا تهمل وتخرب بغداد، وكل من يأتي إلى رئاسة الوزراء لا يعرف عن تفاصيل هذه المدنية إلا حدود المنطقة الخضراء التي يتحصنون فيها! وإذا أراد التجول في مناطقها، التي غالباً لا يعرف الكثير من أحيائها، يكون في عجلات حديثة ومصفحة وزجاجها مضلل! ومن ثم لا يرى أي شيء من الخراب والفوضى، هذا إذا افترضنا أن الحكومة مهتمة ببغداد وبأحوالها.

ويبدو أن كل معالم الدمار في جميع تفاصيل الحياة العامة ببغداد، ليست كافية  لتستفز جماعة حزبية وجهات لا أحد يعرف من يقف خلفها، تخرج في تظاهرات مطالبة بتهديم تمثال أبو جعفر المنصور الذي أسس المدينة عام 762! وتنشر الجيوش الإلكترونية هاشتاك بعنوان (يسقط صنم المنصور)! وتختار هذه الجماعات مناسبة وفاة الإمام جعفر الصادق- الإمام السادس عند الشيعة الاثني عشرية- وتتجمع قرب تمثاله في مدينة المنصور ببغداد!

صحيح أن الخراب بات يعم كل مفاصل العراق، لكن يبدو أن ما يحدث لبغداد هو من نتاجات طبقة سياسية استولت على الحكم وتحمل في داخلها حقدًا دفينًا على كل شيء تاريخي وحضاري في هذه المدينة! وربما لا تشعر بالانتماء إلى هذه المدنية، كون الكثير من الطبقة الحاكمة أتوا من خارج العراق بعد 2003 ولا تزال عوائلهم تعيش في البلدان المجاورة أو الدول الأوربية.

سلبوا من بغداد روح المدينة، وحولوها إلى كيان مسخ لا ينتمي إلى عالم المدنية والتحضر. لم يتبق من بغداد الماضي، غير قصائد وأغانٍ نتغنى بها، ورغم كل الدمار الممنهج والمقصود للقضاء على معالم الحياة في بغداد، ستبقى معركة استعادة بغداد من كل القوى الظلامية والجماعات الإرهابية حاضرة دوماً لدى كثير من العراقيين، وتبقى وصية المعماري محمد مكية، البغدادي، خير تعبير لمقولة بغداد مدينة لا تشيخ، إذ يقول مكية “بغداد أيها الأحبةُ جوهرة من جواهر العصر.. قد تمرض.. تتعب.. تئن.. لكنها لا تشيخ.. فزمن المدن العظيمة مغاير لتفسيرنا للزمن… أوصيكم ببغداد.. استمعوا إليها.. أصغوا إلى صوتها كثيرا.. ستكتشفونه في حركة الشجر والنخيل.. في دفق ماء النهر.. في الضحكات الصافية.. تأملوا لونها.. تجدونه في الطابوق.. في الخشب.. في زرقة الماء.. في سمرة الأهل”.

إياد العنبر

إياد العنبر

التعليقات معطلة.