ثقافه عامه

الأطباء ليسوا ملائكة الرحمة دومًا.. هكذا استخدموا البشر أحيانًا كـ«فئران تجارب»

 

نهاد زكي

على مدى قرنين من الزمان كان يتم استخدام البشر كـ«فئران تجارب» في الأبحاث الطبية سواء كانت بهدف تجربة أمصال لأمراضٍ كانت شائعة حينها بلا علاج، أو في الحرب البيولوجية وتطوير الأسلحة، أو في تجربة نظام علاجي جديد لم يتم التحقق من صلاحيته بعد، وفي بعض الأحيان كان يتم استخدامهم في تجريب بعض العمليات الجراحية الخطيرة، أو التعرض للإشعاع.
كان الضحية دائمًا في مثل هذه التجارب هم أسرى الحروب، أو السجناء المحكوم عليهم بالإعدام والمعتقلين، والمرضى النفسيين، والعبيد السود، ومثليي الجنس، وفي بعض الأحيان بلدانًا كاملة، وسجونًا في مناطق محتلة، كان يتم خلالها تنفيذ جرائم بشعة إن لم يلقوا حتفهم فيها فسيعانون من آثارها طوال الحياة؛ فكان يتم استخدام الفقراء في كثير من الأحيان، متطوعين تم إخبارهم بأنهم يتلقون رعاية طبية معينة، فلقوا حتفهم نتيجة لتلك التجارب البشعة والمميتة. وكان المتورطون في تلك التجارب دائمًا هم مجموعة من أقوى دول العالم يمارسون سلطتهم الاستعمارية، أو قوتهم وسيطرتهم الحالية لأغراضٍ سياسية.

لم تكن الحرب العالمية هي بداية التجارب الطبية على البشر عامةً؛ ولكنها قد أدَّت بطريقة مباشرة لصراع قوي بين دول النزاع الكبرى «الولايات المتحدة وألمانيا النازية واليابان والاتحاد السوفيتي» تجبرهم على تحصين جنودهم ضد بعض غازات الحرب المميتة، أو الأمراض الخطيرة التي انتشرت حينذاك، حتى إن بعضهم قد قام بتجربة تلك الأبحاث على جنودهم بغرض خلق جيل من الجنود خارق لطبيعة البشر، فكانت النتيجة كارثية.

اقرأ أيضًا: «تجربة سجن ستانفورد».. ماذا سيحدث حين يُمنح البشر سلطة الطغيان

«النازية».. جرائم ضد الإنسانية بلا حدود

تعتبر الجرائم النازية إبان الحرب العالمية الثانية هي الأكثر بشاعة في التاريخ، كان النازيون يؤمنون بفوقيتهم على باقي البشر، فهم الجنس الآري الذي يجب أن يتسيّد الأعراق الدُنيا؛ فكانت العنصرية وحتى إبادة تلك الأعراق الدنيا هي المقابل الذي يجب أن يدفع للمحافظة على «طهر» الأعراق العليا؛ وهو العُرف الذي اعتمدته ألمانيا النازية خلال فترة الحرب العالمية الثانية بصعود أدولف هتلر إلى سدة الحُكم؛ وبين عامي 1933 و1945 تم إنشاء أكثر من 20 ألف معسكر سميت بـمعسكرات التعذيب، سجن فيها ملايين من البشر، لم يكن اليهود وحدهم هم ضحاياها على الرغم من التركيز الإعلامي على ذلك، ولكن أسرى الاتحاد السوفيتي، والغجر، ومعارضي النظام، والبولنديين ومثليي الجنس، وكل من تم اعتباره ليس «آريًا» كذلك، كانوا ضحايا النازية.
وفي تلك الفترة تم تخصيص معسكراتٍ كاملة للتجارب الطبية على البشر، وانقسمت التجارب إلى ثلاثة أهداف بعضها عسكرية، والبعض الآخر طبي، أما الأخيرة فكانت لأهدافٍ عنصرية تمامًا لإثبات تفوق الجنس الآري. «تجربة الضغط العالي» كانت إحدى هذه التجارب التي تهدف لمساعدة الطيارين الألمان خلال الحرب، حيث تم تقديم طائرات مقاتلة نفاثة يصل ارتفاعها من 18 إلى 21 كم، لكن لم يكن معروفًا حينها تأثير هذا الضغط العالي على الجسد البشري، وفي 22 فبراير 1942 بدأت التجربة التي استمرت ثلاثة أشهر تم استخدام من 10 إلى 15 سجينًا بها وتم تجريب أكثر من 200 بحث عليهم، بوضعهم في مقصورة يتم فيها إزالة الضغط بطريقة سريعة وقياس ردود أفعال أجسادهم الفسيولوجية. توفي خلال التجربة من 70 إلى 80 سجينًا أغلبهم بسبب الإهمال من القائمين على البحث.

في مايو (أيار) 1942 تحطمت الكثير من الطائرات الألمانية التي سقطت في البحر ومات الطيارون جراء انخفاض درجة حرارة أجسادهم، فتم تجميد أجساد السجناء في تجربة بحثية هدفها البحث عن سبل لمواجهة هذا الموقف، فتم وضعهم عراة في ليالي الشتاء الباردة في الخارج وكان يتم رش الماء البارد عليهم لتكثيف انخفاض درجة حرارة أجسادهم؛ وتوفي جراء تلك التجربة أكثر من 90 سجينًا. وفي تجربةٍ أخرى تم إجبار الغجر على شرب ماء البحر فقط لفترات طويلة، لحاجتهم العسكرية لذلك لمساعدة الجنود، ولمعرفة ما الذي سيفعله الماء المالح بالجسد من آثار.

أما عن التجارب الأخرى والتي كانت تعد بالآلاف، فكان هدفها الأساسي هو الارتقاء بأجساد الجنس الآري وجعلها محصنة؛ فتم تجربة غاز سام على بعض المساجين في معسكرات الاعتقال لرؤية تأثيره وتقدير المدة الزمنية التي يحتاجها ليميت الجسد، وبهدف عمل أقنعة مقاومة للغازات السامة، والبعض الآخر كان اختبارات لصناعة أدوية لأمراضٍ مستعصية حينها كالملاريا، عن طريق حقن المساجين بالمرض، وتجربة كافة الاحتمالات الممكنة لعلاجه.

استمر الأطباء الألمان في عمل تجاربهم على السجناء حتى آخر أيام الرايخ الثالث، ومع إعلان انهزام ألمانيا في الحرب أرادوا أن يتخلصوا من الأدلة والأبحاث التي تدينهم بارتكاب جرائم حرب، لكن كان من المستحيل عليهم التخلص من كل الأدلة نظرًا لكثرة عدد الجرائم ولضيق الوقت.

وفي أغسطس (آب) 1947 تم عقد محاكمة جماعية لكل الأطباء الألمان الذين شاركوا في عمل تجارب طبية قاتلة أثناء الحرب العالمية الثانية على معتقلي معسكرات التعذيب. أقيمت المحاكمة في مدينة نورمبرغ الألمانية ونتج عنها ما عرف بـ«قانون نورمبرغ» والذي يحرم التجارب الطبية على البشر إلا برضاهم الشخصي. والجدير بالذكر أنه وأثناء المحاكمة لم يعترف أي من الأطباء المجرمين باختراق أية قوانين، ولم يشعروا حتى بالذنب، بل رأوا أن ما فعلوه كان لخدمة البشرية، ومن لم يُحاكم منهم أقدم على الانتحار، أو واصل الهرب.

«الولايات المُتحدة الأمريكية»: السجناء كانوا فئران التجارب الأرخص سعرًا

أثناء محاكمة نورمبرغ للأطباء النازيين، كانت الولايات المُتحدة تعتقد أن المحاكمات بخصوص جرائم الحرب وقانون نورمبرغ للتجارب الطبية كان أمرًا خاصًا بالألمان فقط، ولكنهم اكتشفوا عبر المحاكمة أن الأطباء الألمان يتهمون الولايات المتحدة نفسها بارتكاب جرائم شبيهة بجرائم النازية إبان الحرب العالمية الثانية.

لم تكن تلك الجرائم هي الأولى من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة، فبين عامي 1845 و1849 قام طبيب أمراض النساء جايمس ماريون سيمز والذي لُقب بـ«أبي طب النساء الحديث» بعمل تجاربه الطبية على النساء العبيد من الأفارقة، والتي كانت تهدف إلى علاج الناسور؛ فأجرى عدة عمليات جراحية تجريبية على النساء العبيد بلا تخدير لاعتقاده أن تلك العمليات ليست مؤلمة.

لكن تظل تلك التجربة فردية، أما التجارب التي تلتها فكانت حكومة الولايات المُتحدة على علمٍ بها وقامت بتمويلها، منها تلك التجربة التي أجريت على سجناء محكوم عليهم بالإعدام عام 1906 في سجن «بيليبيد» بإحدى جزر الفليبين، وأسفرت في النهاية عن مقتل 13 فردًا، حيث تم حقنهم بفيروس الكوليرا.

أما عن التجارب التي تم إجراؤها أثناء الحرب العالمية الثانية فكانت أكثر بشاعة، تم استغلال جنود البحرية الأمريكية أنفسهم فيها، حيث تم تجربة غاز الخردل السام «Mustard Gas» عليهم من أجل صنع أقنعة الغاز القادرة على مقاومة هذا السُم المُشوه والقاتل. تحكي جريدة الإندبندنت عن تلك التجربة المريعة وبالأخص عن «غلين جينكينز» و«ناثان سنورمان» وهما من جنود البحرية من بين 2500 جندي آخر تم تجربة الغاز السام عليهم:

«كان جينكينز في السابعة عشرة من العُمر حين تم حبسه في غرفة الغاز على مرأى ومسمع من الكابيتول الأمريكي بواشنطن؛ مما سبب له أضرارًا لم يستطع التعافي منها، أما سنورمان فقالوا له بعد أن أنهى فترته التدريبية إنه سيجرب زي البحرية الجديد، وتم إرساله إلى معسكر صغير للجيش في الميريلاند حيث تم تعريضه هناك للغاز السام بعد أن أعطوه قناعًا بدائي الصنع قائلين له إنه مقاوم للغازات السامة، حيث تم حبسه في كوخٍ صغير يفتح بابه من الخارج فقط، ورفع درجة حرارة المكان، وعندما فشل القناع في حمايته طلب عبر الاتصال بقادته أن يسمحوا له بالخروج من الغرفة، رفضوا طلبه وتركوه هناك حتى تقيأ في قناع الغاز، فقد الوعي وتعرض لأزمة قلبية».
لم تكن تلك هي التجربة الوحيدة للولايات المتحدة حيث ظلت ترعى التجارب الطبية على البشر حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ فقامت برعاية دراسة طبية تهدف لمعرفة الآثار الخطيرة للزهري على المرضى غير المعالجين بإعطائهم موادَّ كيميائية تهدف لعدم انتشار المرض بالتعاون مع حكومة غواتيمالا، وتم تطبيق التجربة على السجناء، العاهرات والذين يعانون من أمراضٍ عقلية، وتوفي على أثرها 30 مريضًا هم فقط المسجلون في الدفاتر.

اقرأ ايضًا: تاريخ التجارب السريَّة التي أجرتها الحكومة الأمريكيَّة على البشر

أما إحدى أكثر تلك التجارب شهرة فكانت تلك التي قامت بها الولايات المتحدة عام 1932 في مقاطعة ماكون ألاباما، فتم رصد 600 رجل أفريقي-أمريكي أصيب منهم 399 بالزهري، كانوا من الفقراء الأميين الذكور لم يتم إخبارهم أنهم سيصابون بمرض يهدد حياتهم، بل تم إخبارهم أنهم يتلقون رعاية طبية مجانية، وحتى بعد تقنين البنسلين كعلاج فعال للزهري عام 1947، إلا أنهم لم يتلقوا هذا العلاج حتى بعد عام 1972، حين تم فضح أمر تلك التجربة السرية مما اضطر بيل كلينتون لتقديم اعتذار رسمي لهم، والجدير بالذكر أن زوجات هؤلاء المزارعين التقطوا العدوى من أزواجهن بل وأصيبت به بعض النساء الحوامل مما نتج عنه ولادة أطفال حاملين مرض الزهري الخُلقي.

«كوريا الشمالية» .. أسلحة كيمائية جُربت على السجناء

في تقرير لبي بي سي عن فيلمٍ وثائقي قاموا بتغطيته عن معسكر تعذيب في كوريا الشمالية، تم الكشف عن أدلة جديدة لجرائم بشعة ارتكبها النظام الكوري في حق مواطنيه وهي أن كوريا الشمالية تختبر أسلحة كيميائية جديدة على النساء والأطفال؛ فيوضح الفيلم كيف يتم القبض على عائلاتٍ بأكملها بلا تهمةٍ محددة سوى أن أحد أفراد العائلة مُعادٍ للنظام، ولذلك تتم معاقبتهم.

أكثر من 70 عامًا مرت على« كامب 22» أحد أكبر المعسكرات التي شهدت تلك الأحداث المأساوية، لم ينج منها غالبًا سوى الحراس والموظفين السابقين الشاهدين على التجارب البشعة وحوادث القتل، يروون تفاصيل التعذيب اللاإنسانية، فيقول أحدهم مُشيرًا إلى مركز الاعتقال: «إذا ذهب شخصٌ ما إلى داخل هذا المبنى فإنه سيصبح ميتًا في غضون ثلاثة أشهر، أو على الأقل مُعاقًا مدى الحياة، وفي هذا الركن بالتحديد كان يتم اتخاذ قرار من سيتم إعدامه وكيف؟ وهل سيكون الإعدام علنيًا أم سيحدث ذلك في سرية تامة؟».

ويحكي أحد السجناء السابقين الذي كان طفلًا حينما أرسل هو وأسرته إلى معسكر التعذيب قائلًا إن ذكريات الإعدامات شكلت أغلب ذكريات طفولته هو ومن معه من الأطفال؛ حيث كانوا يجبرونهم أن يشاهدوا تلك الإعدامات حتى يأتي دورهم، كما كان يتم إجبار السجناء على رجم بعضهم البعض بالحجارة حتى تتوفاهم المنية.

«اليابان».. الوحدة 731

كانت الوحدة 731 في اليابان من أكبر وحدات الجيش الياباني التي اجتمع فيها النخبة العلمية والعسكرية إبان الحرب العالمية الثانية، حيث أرادوا اللحاق بسباق التسلح حينذاك؛ فكانت أمريكا وألمانيا من الدول التي تسعى لتطوير التسلح النووي بينما اليابان أخذت على عاتقها تطوير السلاح البيولوجي؛ فآمنت بقدرة الجراثيم على مساعدتها في كسب الحرب؛ وخصص الإمبراطور ميزانية ضخمة للأبحاث التي تتم في تلك الوحدة، حتى أصبحت أكبر وأشمل برنامج للحرب البيولوجية في العالم.

في فيلمٍ تسجيلي يكشف عن واحد من آخر أسرار الحرب العالمية الثانية وجرائم الحرب التي ارتكبت في اليابان تحت اسم البحث الطبي، نرى أكثر من 10 آلاف من الأسرى الصينيين والكوريين والروس قد لقوا حتفهم ذبحًا بعد أن تم استخدامهم كفئران تجارب للبحث العلمي في الوحدة 731 لتطوير الأسلحة البيولوجية، لكن لم تكن تلك فقط هي الجريمة الوحيدة لهذا المعسكر، فقد تم تجريب الأسلحة البيولوجية والجراثيم على المدنيين الصينيين؛ فقتل أكثر من 300 ألف شخص بين عامي 1938 و1945.

وفي كتابٍ صدر باسم «unit 731» تم توضيح تفاصيل انتهاء الحرب العالمية بهزيمة اليابان؛ فبعد أن استسلم اليابانيون وسيطرت الولايات المتحدة الأمريكية على إدارة شئون البلاد، لم يقدم أي من علماء اليابان الذين ارتكبوا جرائم حرب إلى المحاكمة، وكل الأبحاث الخاصة بالوحدة 731 تم التحفظ عليها في أرشيف جيش الولايات المتحدة بعد أن عقدوا اتفاقًا مع اليابانيين بعدم تقديم أي أدلة تدينهم في الحرب مقابل أن تحتفظ الولايات المتحدة بالأبحاث ونتائجها. والحقيقة أنه لم يتم الكشف عن أسرار تلك الحرب إلا بعد أن تقدم 180 شخصًا من الصينيين إلى ساحة القضاء يحملون أدلة على أن اليابان كانت تستخدم أسلحتها البيولوجية ضدهم.

المختبر السري في الاتحاد السوفيتي

منذ عشرات السنين أنشأ الاتحاد السوفيتي مختبرًا سريًا عرف باسم «Kamera» وهي غرفة الغاز المميت التي قاد بها السوفيت برنامجًا مخيفًا للبحث عن أساليب جديدة لتسميم البشر خلال عهد ستالين، وقد بدأ الأمر منذ عشرينيات القرن الماضي حين كان الاتحاد السوفيتي يعمل على خطف وقتل المعارضين له داخل البلاد وخارجها.

وحتى لا ينفضح أمره تم إنشاء غرفة الغاز التي كان الهدف منها هو صناعة غاز عديم الرائحة والمذاق ولا يمكن الكشف عنه من خلال التشريح، ويكون قادرًا على القتل خلال دقائق معدودة، وهذا حتى لا يكون هناك أية أدلة تدين النظام؛ فكان يتم تجربة الغاز على المعتقلين السياسيين والأسرى، ومن نجا منهم من غرفة الغاز أثناء التجارب تم إطلاق النار عليه.

نجح النظام الروسي في عمل سمه القاتل والذي استخدمه فيما بعد في الاغتيالات عن طريق بندقية بخار قادرة على أن تطلق الغاز على بعد 20 مترًا، ولا يترك أثرًا على الجثة؛ وكانت تخرج شهادات الوفاة بأنهم قد توفوا إثر أزمة قلبية.

وعلى الرغم من أن السوفيت قد أعلنوا أنهم قد قاموا بغلق غرفة الغاز وأبحاثها عام 1953 إلا أن بوريس فولودارسكي «جاسوس سابق» قام بنشر مقالة شهيرة في «وول ستريت جورنال» عام 2005 تفيد بأن المادة المستخدمة لتسميم مرشح الرئاسة الأوكراني «فيكتور يوشتشينكو» عام 2004 شديدة الشبه بتلك المادة التي كان يتم تصنيعها في غرفة الغاز السوفيتي.