ثقافيه

“خمس أغنيات” من فاغنر: الحب والموت والشعر والموسيقى في بوتقة واحدة

أشعار كتبتها عشيقته ماتيلدا من دون أن يخطر في بالها أنه سوف يلحنها بعواطفه

إبراهيم العريس باحث وكاتب 

لوحة تمثل “تريستان وإيزولت” بريشة هربرت درابر (ناشيونال غاليري ـ لندن)

يقول عشاق موسيقى ريتشارد فاغنر إنه كان من حسن حظهم وحظه أن التاريخ لم يحفظ شيئاً من بقايا الألحان التي وضعها هذا الفنان، خلال إقامته في “المنفى” الباريسي أواخر عام 1839، لقصائد من فكتور هوغو أنشدتها في ذلك الحين بعض مغنيات الطبقة الثالثة في العاصمة الفرنسية ثم طواها النسيان تماماً. والحقيقة أن أحداً لم يَرْتَب في أن تلك الألحان لم تسهم أبداً في تعزيز مكانة فاغنر الموسيقية، كانت مجرد تنويعات على ألحان شائعة كتبها في سبيل الحصول على أجره عنها ولم يتوخ أبداً أن تكون لها مكانة في حياته وعمله. كم كان عدد تلك الألحان؟ لمن كتبت؟ ماذا كان رأي الحياة الأدبية والفنية الباريسية فيها؟ لا أحد يعرف بالضبط، ذلك أن النسيان طواها وفاغنر نفسه لم يعد إلى ذكرها، بل إن أحداً في فرنسا لم يفكر في إعادة غنائها. بيد أن هذه الأغاني، لم تكن كل ما لحنه فاغنر في هذا المجال، حتى وإن كان لم يشتهر أبداً بصفته ملحناً للأغاني في زمن كان فيه هذا الفن قد شاع، خصوصاً في ألمانيا حيث صارت الأغاني المسماة “ليدر” والمفرد “ليد” فناً قائماً في ذاته. وإذا تذكرنا هنا أن معاصره روبرت شومان مثلاً لحّن مئات “الأغاني”، وقارنا هذا بما بقي حياً حتى أيامنا هذه من “أغاني” فاغنر، قد نصاب بالدهشة: ذلك أن ما نعرفه اليوم من أغنيات فاغنر خمس لا أكثر، وكلها، على أية حال، لحّنت في زمن واحد، وانطلاقاً من قصائد كتبتها عشيقة الفنان في ذلك الحين ماتيلدا فسندوك وأرسلتها إليه، غير عارفة أصلاً بأنه سوف يلحنها.

العريس-2.png

ريتشارد فاغنر (الموسوعة البريطانية)

على هامش “تريستان وإيزولت”

الذي حدث هو أن فاغنر كان في ذلك الحين، نحو عام 1865، منهمكاً في التحضير لاشتغاله على أوبرا تالية له هي “تريستان وإيزولت“. وهو كان، لذلك، في غمرة التفكير حول أمرين أساسيين يشغلان باله ويريد لهما، كما للعلاقة بينهما أن تكون موضوعاً أساسياً من مواضيع تلك الأوبرا التي كان يراهن عليها كثيراً، ولعل أكثر ما كان يشغله في ذلك الصدد، هو الكيفية التي يمكن بها للموسيقى أن تعبر عن كل منهما، من دون أن تبدو متناقضة. بل كان يريد أن يكون التعبير الموسيقي عن الحب هو التعبير عن الموت. والحال أن القصائد التي كتبتها ماتيلدا باعثة بها إلى ريتشارد فاغنر، كانت تجمع بين سطورها الموت والحب معاً، وهكذا وجد الفنان نفسه أمام دفق من عواطف ومواقف وأبيات تلائم ما كان يفكر فيه، وهكذا انكبّ من فوره على وضع ألحان لها، وهو مدرك أن هذه الحال، حتى ولو اتسمت لاحقاً بقدر كبير من الاستقلالية، سوف تكون أشبه بتمهيد لبعض موسيقى الأوبرا العتيدة.

حلقة وصل

وهكذا ولدت من رحم حسّ فني عميق، بل من رحم تجربة حياتية حقيقية، تلك الأغنيات الخمس، التي صارت على ضآلة عددها، تعتبر حلقة الوصل، في عالم “الليدر” بين إنجازات شومان وفرانز شوبرت من ناحية، وإنجازات يوهانس برامز وريتشارد شتراوس من ناحية أخرى، والمدهش أن فاغنر اعتبر بذلك العدد الهزيل من الأغاني صنواً لكبار الموسيقيين الألمان من مواطنيه الذين لحّن كل واحد منهم في حياته عشرات ومئات “الليدر”، ويقودنا هذا إلى الحكاية التالية التي تروي لنا كيف أن ماتيلدا، ما إن بدأت تبعث الأشعار إلى فاغنر تباعاً، وفهمت أنه بدأ يضع الموسيقى لأولاها، حتى اتخذت من بيت مجاور لبيته مقراً، راحت انطلاقاً منه تتابع مسيرة الفنان في التعامل مع أشعارها، لمتابعة تلحينه لها يوماً بيوم، بحيث أن ماتيلدا سوف تقول لاحقاً في واحدة من رسائلها، إنها بسرعة فهمت أن تلك الألحان إنما هي “رسائل حب ملتهبة” يبعث بها عشيقها إليها على شكل إبداع موسيقي، وهكذا صارت المسافة بين البيتين نقطة وصل تلاقى فيها الحب بالموسيقى بالشعر بالتفكير، في الوقت نفسه، حول الموت وحول العلاقة بينها وكان السؤال: هل اكتفت ماتيلدا بتلك الأشعار الملحنة أو أنها بعثت لفاغنر غيرها أيضاً؟ وهل لحّن هو أكثر من خمسة “ليدر” في ذلك الحين؟ إن من الصعوبة بمكان الإجابة عن هذين السؤالين، حتى وإن كانت مراسلات فاغنر مع ماتيلدا خلال تلك المرحلة نشرت لاحقاً، وتبدت نصوصاً تحكي عن الحب، ولكن أكثر من هذا: تحكي عن الفن وعن سيرورة الإبداع، لكن الغريب هو أن فاغنر أو ماتيلدا لم يتحدثا في الرسائل كثيراً عن تلك الأغاني.

بدايات عالم موسيقي مدهش

مهما يكن من أمر عاشت تلك الأغاني الخمس، ولا تزال حاضرة حتى اليوم، بخاصة أن اثنتين منها وهما “أحلام” و”داخل الحصار” أوحتا إلى فاغنر جملاً موسيقية عاد واستخدمها مباشرة في “تريستان وإيزولت”، أما الأغنيات الثلاث المتبقية فإنها استخدمت جزئياً وبدت دائماً متشابهة بالنظر إلى أنها تنتمي إلى مصدر شاعري حسي واحد، ما جعل جملها الموسيقية شديدة الدنو من بعضها البعض وعناوينها هي “ازرعوا الصمت” و”الملاك” و”الشجن”، واللافت أن الأغاني الخمس تعتبر “ليدر” بالمعنى الشعبي الألماني الخاص للكلمة، ومع هذا سرعان ما يتبين للفاحص المدقق أنها تنتمي في حقيقتها إلى عوالم المسرح الفاغنري، انطلاقاً من رنتها الدرامية، كما انطلاقاً من كمّ العواطف المشبوبة الحاضر فيها، مقارنة بشيء من البرود المخيم، حتى على أكثر “ليدر” الآخرين رومنطيقية.

وكان من الواضح هنا أن فاغنر وضع في كل واحدة من الأغنيات قدراً كبيراً من روحه وعواطفه، كان يلحنها وهو يعيش واحدة من أكثر حكايات الحب صدقاً في حياته، أما من ناحية التوزيع الموسيقي فلم يكن مصادفة أن يركز فاغنر على البيانو حيناً، وعلى التوزيع الأوركسترالي حيناً آخر، تبعاً لحجم العاطفة التي يريد التعبير عنها، غير أن الأساس في هذه “الليدر” يبقى في مكان آخر: في الهندسة الموسيقية التي خصّ فاغنر بها كل واحدة من الأغنيات، إذ إنه هنا، وكمن يشتغل على أوبرا حقيقية، أو لنقل بتعبير يومنا هذا على “ميني أوبرا”، حرص على أن يجعل لكل أغنية ما يشبه الافتتاحية يتلوها المتن في نوع من التصعيد المنطقي الذي يستخدم “صوتية” الأشعار بأكثر مما يستخدم معناها، وهي ممارسة كانت قد بدأت تسود وتصبح هي الأساس منذ أغنيات شومان، في مقابل ممارسة سابقة كانت تجعل من الموسيقى مجرد زينة للكلام، بحيث أن التلحين يأتي ملحقاً، خالياً حتى من خصوصيته: يأتي مجرد استكمال للشعر، ويعلق عليه، وفي أحسن الأحوال مجرد خالق لجو يحيط بالشعر همّه إبراز المعاني من خلال التصوير المباشر للعواطف، فيما أتى مع فاغنر، تطويراً لشومان، أكثر من هذا بكثير: أتى رديفاً للشعر متفاعلاً معه لغوياً وعاطفياً وأحياناً طاغياً عليه.

لماذا لم يكرر التجربة

ربما يبدو غريباً أن ريتشارد فاغنر (1813 – 1883) لم يكرر تلك التجربة على رغم نجاحها، من ناحية روعتها الفنية، أو من ناحية استقبال الجمهور والنقاد لها، لكن الحقيقة هي أن فاغنر، على عكس شومان وشوبرت وغوستاف ماهلر لاحقاً، لم يكن في حاجة إلى تكرار التجربة، هو الذي تعامل مع الأوبرات التي كتبها بنفسه، ولحّنها طبعاً، وكأنها “ليدر” طويلة، تضم في داخلها أعداداً متنوعة من أغنيات لكل منها، يمكن أن تُغنّى على حدة على أية حال، ذلك أنه، إذ توحّد الإبداع لديه في أوبراته الكبيرة مثل “ذهب الرين” بأجزائها الأربعة و”الجنيات” و”غرام سيغفريد” و”أساطين الغناء” و”المركب الشبح” و”تانهاوزر”، بين أشعار غالباً، ما كتبها بنفسه، وموسيقى أبدعها ووصل بها إلى الذروة، لم يعد يرى في تلحين “الليدر” هدفاً له، فكل أوبرا من أوبراته جاءت “ليد” متكاملاً، مثلما كانت الحال مع “ليدر” ماتيلدا الخمسة، التي أتى كل واحد منها أشبه بإرهاص بعمل أوبرالي متكامل.