ثقافيه

يوم فالنتاين الروماني يغزو العالم وأوساط الشباب العربي

رمز تاريخي خرج من سياقه الديني ليصبح احتفالاً بالحب

شيرين ابو النجا ناقدة أكاديمية مصرية 

الحب بريشة كيفرون  (صفحة الرسام – فيسبوك)

بات يوم 14 فبراير (شباط) يوم الحب ليس في الغرب الذي هو المعني الأول بقصة القديس فالنتاين الذي يقتل على يد الرومان عام 269 وإنما في العالم أجمع. حتى العالم العربي نفسه أو شبابه بالتقريب، أصبحوا يهتمون بهذا اليوم، فيتبادلون التهاني والهدايا ولا سيما الورود الحمراء، من دون أن يفقهوا معنى هذا اليوم تماماً ولا قصته ولا بعده التاريخي.

فالنتاين هو قديس مسيحي عاش في عصر الإمبراطورية الرومانية التي امتدت من القرن الأول وحتى الرابع الميلادي، وهي فترة اضطهاد المسيحيين وملاحقتهم كما هو معروف ومثبت في كافة الأدبيات والمصادر التاريخية. وطبقاً للمعلومات المتاحة فإن فالنتاين وُلد عام 226 م وقُتل عام 269 م على يد الإمبراطور كلاوديوس الثاني. إلا أن هناك روايات متعددة بشأن هوية فالنتاين الحقيقية، فهو أحياناً القديس الذي وُلد في مدينة تيرني، وأحياناً ذاك الذي وُلد في روما. ولكن يبقى الاتفاق على مقتله يوم 14 فبراير (شباط) خارج بوابة فلامينيان التي تقع الآن في ميدان بوبولو (ميدان الشعب) في روما ودفنه على مقربة منها.

ولأن كل قديس في المسيحية ترتبط بصورته رموز عدة فقد حدث الأمر نفسه مع فالنتاين. ارتبطت أيقونته بالزهور والطيور، أو بطفل مصاب بالصرع، أو شخص مشلول مُسجى عند قدميه، أو قديس يرفض الانحناء لصنم، أو قديس تُقطع رقبته، أو قس يحمل سيفاً أو شمساً، أو قس يُعيد النظر إلى طفلة عمياء. ويُنظر له بوصفه راعي الحب والزواج السعيد وحارس النحل وشافي الصرع والاضطراب النفسي.   

وعلى رغم التضارب حول الهوية الحقيقية لفالنتاين، إلا أن هناك إجماعاً على قدراته غير العادية. مثلاً، عندما كان القديس تحت الإقامة الجبرية في المنزل قرر القاضي أستريوس أن يُخضعه للاختبار، فطلب منه إرجاع البصر لطفلته المتبناة. فقام فالنتاين بالصلاة ثم وضع يديه على عيني الطفلة فاستردت بصرها. أُسقط في يد القاضي، وأبدى استعداده لفعل أي شيء يطلبه فالنتاين، فطلب بدوره أن يقوم القاضي بتكسير كافة الأصنام المحيطة بالمنزل ثم أن يصوم ثلاثة أيام وبعدها يتم تعميده. نفذ القاضي كل المطالب وحرر كافة المعتقلين المسيحيين الذين كانوا تحت إمرته، وتعمد وكذلك كل أفراد أسرته.

image1644515170599.png

فالنتاين في بيروت  (رويترز)

اعتقل فالنتاين مرة أخرى بسبب مواصلته التبشير بالمسيحية، وبسبب عقد الزيجات سراً ليتمكن الأزواج من الحصول على إعفاء من التجنيد. كان فالنتاين يرتدي خاتماً من حجر الجمشت، حفر عليه “كيوبيد”، فكان الجنود- الممنوعون من الزواج- يطلبون منه تزويجهم سراً. وهذه المرة تم إرساله إلى الإمبراطور كلاوديوس الثاني، الذي غضب كثيراً لأنه كان يسعى إلى زيادة حجم الجيش. ولكن في حديثه مع فالنتاين، أُعجب به. وعندما بدأ فالنتاين يبشره بالدين المسيحي ثار غضب الإمبراطور وخيره بين العدول عن العقيدة أو الموت، واختار فالنتاين الموت بالطبع. ويسرد ديفيد كيثكارت في كتابه المنشور عام 2013 أن الحكم تضمن ثلاث مراحل: الضرب، ثم الرجم، ثم الشنق.

في القرن الثامن عشر، خلص البان باتلر وفرانسيس، الخبيران في تقصي المخطوطات القديمة، إلى أن يوم 14 فبراير تحول إلى احتفال في العام 496 م من أجل طمس العيد الروماني الوثني لوبركال الذي كان يُعقد في الفترة من 13 إلى 15 فبراير، ويقوم فيه الصبيان والبنات بسحب اسم من وعاء كبير من أجل المواعدة. لكن باحثين آخرين عارضوا وفندوا هذه الفكرة وأكدوا أن من حول اليوم إلى احتفال هو أبو الأدب الإنجليزي، جيفري شوسر في قصيدته الشهيرة المكونة من 699 بيتاً وعنوانها “برلمان الطيور” (1382). لكن أوفيليا في مسرحية “هاملت” لشكسبير ذكرت يوم القديس أيضاً في تعبيرها عن حبها اليائس لهاملت. الروايات متضاربة لكن ما يلفت النظر هو غزارة الأبحاث التي تحاول تتبع أصل قصة فالنتاين بخاصة أنه أدرج في قوائم الكنيسة، ثم رُفع، ثم تم إدراجه مرة أخرى. وبسبب تغير التقويم تحتفل به الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية يوم 14 فبراير، أما الكنيسة الأرثوذكسية فتحتفل يوم 6 و30 يوليو (تموز). وتحتفل الكنيسة اللوثرية والإنجيلية في بريطانيا بيوم 14 فبراير وتتيح لمن يرغب تجديد عهود الزواج.    

على رغم كل المنظومة الكهنوتية التي رُسمت بداخلها صورة القديس فالنتاين، وعلى رغم اختلاف التقويم بين الكنيسة الغربية ونظيرتها الشرقية تحول يوم 14 فبراير إلى ما يُشبه مناسبة عالمية لها قواعد وأسس اجتماعية في العالم الغربي  وفي العالم العربي أيضاً في شكل أقوى منه في الغرب.

61eThOyKuqL._AC_UF1000,1000_QL80_.jpg

كتاب يتناول تاريخ فالنتاين (أمازون) 

ارتحل فالنتاين من مدينة تيرني في شمال إيطاليا أو مدينة روما ووصل إلينا في شكل جديد تماماً، وكأن الطريق والزمن أكسباه (ألصقا به في الواقع) ما لم يفكر فيه هو ذاته مطلقاً. جاء فالنتاين بورود حمراء وقلوب حمراء وشكولاته وملابس حمراء. ومن غير المعروف إطلاقاً سبب اختيار اللون الأحمر، سوى أن تفسير الألوان يؤشر على الأحمر بوصفه دالاً على العاطفة الجياشة، أما القلوب، فالمخطوطات تقول إن فالنتاين عندما كان يعقد الزواج للمسيحيين كان يمنحهم قلوباً من الورق ليذكرهم بعهود الزواج.

كل المفردات الأخرى التي حولت يوم استشهاد هذا القديس إلى عيد، فهي من صناعة المخيال العربي الذي استعار بضعة مظاهر من المخيال الغربي وتحول يوم 14 فبراير إلى مناسبة استهلاكية بامتياز. تبدأ المطاعم في الإعلان عن عشاء رومانسي وتعرض المحال كل ما يتصل بالقلوب الحمراء وتتبارى معها محال الحلويات ويرتفع سعر الزهور في شكل مبالغ فيه. ثم مارس المخيال العربي أكثر من ذلك على صورة فالنتاين إذ أسقط عنه كل سماته الأصلية، فأصبح يوم 14 فبراير عيد حب الأصدقاء، والأمهات، والآباء، والوطن!

يبدو لي هذا التعميم في تعريف الحب المرتبط بفالنتاين ناتجاً من فتاوى تحريم الاحتفال باليوم الذي ظهرت في العقد الأخير، بفعل صعود تيارات يمينية متطرفة، فكان السبيل الأوحد لمراوغة الفتوى من دون مواجهة، هو توسيع دائرة الحب لتشمل كل شخص. هذا على رغم أن القديس فالنتاين لم يكن يدعو إلى الحب أو العشق، بل كان يبارك الزواج ويُذكر الزوجين بالعهود.