ثقافيه

“يوم العيد” يهدي السينما الفرنسية نسختها الخاصة والأكثر تسييسا من تشارلي تشابلن

الفيلم الذي ولد 3 مرات شهدت ثانيتها البداية الحقيقية للهزلي المحلي جاك تاتي

إبراهيم العريس باحث وكاتب  

جاك تاتي في “يوم العيد” (1947) (موقع الفيلم)

هناك أفلام في تاريخ السينما تولد مرة واحدة، وأخرى مرتين، لكننا هنا أمام فيلم استثنائي ولد ثلاث مرات، بيد أننا هنا لا نتحدث عن تلك الولادات الجديدة التي تكرر إنتاج فيلم واحد مرتين، وأكثر، بتلك الصورة التي باتت سائدة في العقود الأخيرة، بل أمام فيلم ولد، حقاً، مرتين أخريين، بعد ولادته الأولى: في البداية ثم في المرة الثانية كانت المسألة تتعلق بفيلم قصير لم يستكمله صاحبه إلا بعد أن توافرت له ظروفه بعدما كان قد توقف عن استكماله في صورة فيلم قصير كان يريد منه أن يكون بداية مساره السينمائي، لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية قطع عليه الطريق بعد 10 سنوات من اشتغاله عليه، وكان عنوانه “أوسكار بطل كرة المضرب”، ومن هنا نراه، ما إن انتهت الحرب، يقدم في عام 1946، على إبداله بفيلم قصير آخر، ولكنه عنونه هذه المرة “مدرسة سعاة البريد”. كان فيلماً لم يتمكن، مرة أخرى، من إنجازه وعرضه بطريقة ملائمة، ومن هنا نراه في العام التالي، يعود إلى الاشتغال عليه، محولاً إياه من فيلم قصير إلى فيلم طويل يعتبر في تاريخ السينما الفرنسية علامة أساسية من علاماتها، بل حتى الفيلم السينمائي الذي حقق لفرنسا حلم سينمائييها بأن يكون لها سينماها الحقيقية التي تسير على خطى تشارلي تشابلن، الذي كان في ذروة نجاحاته العالمية حينها، ويمكن لتاريخ السينما العالمية أن يتحدث عن مئات السينمائيين في العالم كانوا يتطلعون لمحاكاته. ويقيناً أن فيلم “يوم العيد” الذي نتحدث عنه هنا وعن مبدعه جاك تاتي بكونهما حققا “المعجزة” حين ولد ذلك الفيلم ليكون، في الوقت نفسه، فيلم الانطلاقة الحقيقية وخطوة على طريق فني جعل لتاتي نحو نصف دزينة من أفلام تالية، فاعتبر حقاً “تشابلن فرنسا” عبر شرائط تواصل إنتاجها، ولو بوتيرة بطيئة بعض الشيء، حتى رحيل هذا الفنان في عام 1982.

العريس 2.png

جاك تاتي (1907 – 1982) (غيتي)

الفنان الشامل

بل من حقنا أن نستعير له هنا الوصف الذي حمله تشابلن في المقلب الآخر من العالم: أي الفنان الشامل. فهو في فيلمه “الأول” هذا كما في أفلامه التالية من “إجازات مسيو هولو” (1935)، فيلمه التالي بعد “يوم العيد”، إلى “عمي” (1958) الذي كان فيلماً فرنسياً نادراً حقق، في ذلك العام المبكر، جائزة “أوسكار”، و”بلايتايم” (1964)، و”زحام المرور” (1971)، فـ”الاستعراض” (1973) كان كاتب أفلامه ومصورها ومُولّفها، ناهيك بكونه منتجها، في معظم الأحيان، مما جعله يشبه، من هذه الناحية، حتى بتشابلن الذي سبقه، ويشبه به لاحقاً وودي آلن، وجعله يشغل مكانة متقدمة في تاريخ السينما العالمية، ناهيك بأننا إن استعرضنا أفلامه سنجده كذلك يشغل مكانة أساسية في تاريخ الأفلام التي تعالج القضايا الاجتماعية المطروحة في الحياة الحديثة بأضعاف ما تفعله أفلام أكثر جدية تتناول تلك القضايا، بل يزعم صانعوها أنهم ما صنعوا سينماهم إلا ليفعلوا ذلك. ومن هنا لا بد أن نوافق مؤرخي السينما الذين يقولون عادة إن تاتي قد تمكن، وكما فعل تشابلن ووودي آلن من “رفع شخصيات أفلامه إلى مستوى أساطير القرن الـ20″، ولنقل هنا إن تاتي فعل أكثر من ذلك بجعله سينماه تغوص في القضايا الاجتماعية من دون أن يبدو عليها أنها تفعل ذلك. وما “يوم العيد” سوى العمل السينمائي الذي قدم من منطلق نقدي حاد، صورة متكاملة لنوع خاص من بورجوازية ريفية فرنسية، كما سنرى.

العريس 3.png

بوستر فيلم “يوم العيد” (موقع الفيلم)

العيد “يفسد” هدوء الحياة الريفية

تدور أحداث هذا الفيلم في بلدة ريفية فرنسية تعيش هدوءاً لافتاً ونوعاً من حياة تبدو طبيعية، وهي تستعد للاحتفال بعيد ريفي مقبل يحمل معه، من خلال جمهرة من فناني هذا النوع من الاحتفالات، كل ضروب الجنون الاحتفالي وجنون المجتمع الذي تزيل عنه تلك الأعياد قناع الوقار المتعارف عليه ليتكشف أن الظروف الاستثنائية هي اليد التي ترفع القناع لتكشف عما يكمن وراءه. وفي حالتنا هنا ليست تلك اليد في حقيقتها، سوى فرنسوا (جاك تاتي بالطبع) ساعي البريد المحلي الذي يكون أول من يسعى إلى التعايش مع تلك المناسبة ما إن تغزو القرية العربات والحافلات التي تحمل إلى المكان أنواع لاعبي السيرك، وعمال تشغيل مدينة الملاهي الموقتة، والموسيقيين والراقصين والمسرحيين المتنافسين لاجتذاب الصغار والكبار، إلى جانب أولئك الفنانين الوسماء الذين لن يكون نادراً أن تقع في حبائلهم وفنهم وكلامهم اللطيف، فتيات القرية، ومن بينهم، روجيه، الشاب اللبق والوسيم الذي سرعان ما تقع حسناء البلدة، جانيت، في شباكه لتصبح حكايات الغزل بينهما محوراً أساسياً من محاور الحدث.

اقرأ المزيد
  • الفرنسي جاك تاتي رصد العصر بعيني فيلسوف ماكر
  • لماذا ينسى الناس “الهجمة على الذهب” الفيلم الأكثر ذاتية لتشارلي تشابلن؟
  • هكذا صوَّرت السينما الفرنسية أزمة الضواحي والمهاجرين

لكن وجود ساعي البريد الذي بوعيه نوعاً ما، ولكن بصورة أكثر وعياً، يتولد لديه شيء وشيء، وإن يكن لا بد له في ذلك، يصبح هو، بتحركه الأخرق في معظم الأحيان، قد جعل من نفسه مرصداً لسبر خفايا السلوكيات والمواقف والحوارات والعلاقات، “الكاميرا” التي تصور الحياة الحقيقية لمجتمع كان يبدو أول الأمر ساكناً هادئاً.

كوارث العمل التطوعي

ولقد تمكن ساعي البريد الذي لا تفارقه دراجته الهوائية، وقد تطوع للمساعدة في كل ما تتطلبه تلك المناسبة منذ بدايات الاستعداد لها من جهود يحل فيها وحده بديلاً عن جميع المتقاعسين عن تقديم يد العون لأولئك الضيوف الذين ما حلوا في المكان إلا لكي يكسبوا رزقهم البسيط مقدمين للسكان المحليين فرصة، يتمنى البعض الحصول إياها، ويرفضها البعض الآخر منهم، خوفاً من الاحتكاك بالعالم “الخارجي”، بطريقة مرعبة، حتى وإن كانت تخرجهم من مللهم الدائم، كاشفة الرغبات الخفية والعواطف المتقدة المقموعة، ولكن، أيضاً، كل أنواع الأحقاد والرعب إزاء ما يأتي به الغرباء، حتى وإن كانت السعادة ما يحملون إلى هذا العالم المغلق (ترى هل يذكرنا هذا بأمور تبدو في ظاهرها أكثر جدية وإيلاماً بكثير؟).

صحيح أن هذا ما لم يكن في إمكان الفيلم أن يقوله لو لم يكن تدخل ساعي البريد الذي ندرك هنا أنه، ومن دون إدراك منه، يلعب دوره غير المقصود كإطلالة من الداخل على عالم الخارج، وتدخل من الخارج في نظرته إلى الداخل. وهو يعبر، بالتالي، عن العفوية في مجال نشر الوعي ولكن بصورة أخرق. فهو ومنذ البداية، أي منذ “تبرعه” بمساعدة فناني العيد على توطيد مكانهم الموقت في القرية، لا يتوقف عن ارتكاب الحماقات، وما هو أكثر من الحماقات، بحيث يبدو ألا أحد هنا ممتن له حقاً، وقد أنستهم الكوارث الناجمة عن تدخله، كل الحسنات التي فعلها.

الولادة الثالثة ملونة

والحال أن ساعي البريد، وسيراً على خطى ما كانت البلدة قد شاهدته في فيلم وثائقي أميركي كان قد عرض في سينما نقالة عشية يوم ختام العيد، قرر، وبعد رحيل الفنانين إلى بلدة أخرى، أن يقوم بمفرده بجولة دعم وتوعية على الطريقة الأميركية التي يتحدث عنها ذلك الفيلم، وكان هو قد نوه بها في فيلمه القصير السابق “مدرسة سعاة البريد” الذي يعد النسخة الأولى من “يوم العيد”، لكن أهل البلدة يهدئون من حماسته، إذ بعد انتهاء الصخب الذي تسبب العيد به، ها هو الهدوء يعود إلى المكان بما فيه التأفف من الملل العائد في ركابه، إذ يبدو الآن وكأن الزمن قد استعاد مساره. وبقي أن نشير هنا إلى ما سميناه، أول هذا الكلام، “الولادة الثالثة” لهذا الفيلم الذي لو تبحرنا فيه الآن على ضوء المواقف المتفاقمة ضد ما هو غريب في العالم، لأدهشتنا قدرة مخرجه جاك تاتي (1907 – 1982) على خوض الراهن من خلال حداثة الرسائل العديدة التي تبدو راهنة بصورة مرعبة وكأنها تتحدث عن “الغريب” والموقف منه في أنحاء كثيرة من العالم: فالفيلم الذي كان، أول الأمر، بالأسود والأبيض سيعاد ترميمه، وقد تمكنت التقنيات الحديثة من تلوينه بصورة أخاذة ليعرض من جديد، في عام 1995، وتعلق الصحافة، بالمناسبة، مشيدة من ناحية بتلك الرسائل السياسية – الاجتماعية، ولكن أكثر من ذلك، بالتلوين الذي بدا وكأنه خلقه من جديد وعصرنه بصورة “يبدو معها الفيلم وكأنه صور في الأمس فقط”، بحسب ما ذكرت صحيفة “لوموند” في ذلك الحين.