مقالات

صراع العرش.. ماذا يحدث في السعودية؟

أمين طاهر

منذ ما يزيد عن خمس قرون وضع الفيلسوف الايطالي نيكولو ميكيافيلي جملة من القواعد السياسية في كتابه الشهير الأمير للطامحين في إرساء سلطتهم المطلقة، حيث أشار أن على الحاكم أن يكون مرهوب الجانب شديدا على معارضيه؛ إذا لم يكن كليهما في الآن ذاته.

وعلى خطى ميكيافيلي يسير ولي العهد السعودي الشاب محمد بن سلمان الذي استطاع في الآونة الأخيرة أن يفرض نفسه كرجل المملكة القوي، وأن يتصدر الواجهة السياسية في بلده، بفضل نهجه عقيدة سياسية أساسها الحزم والرهبة والاستبداد المطلق، وجد فيها وسيلة فعالة لارتقاء السلطة واحتكارها في بلد سلطوي تنتفي فيه مبادئ السياسية الحديثة كفصل السلط وسيادة القوانين وتغيب فيه تنظيمات واضحة لتداول السلطة.

مما يثير عدة تساؤلات عميقة خاصة عوامل صعوده السياسي والسياقات المصاحبة لهذا الصعود وانعكاساته محليا وعلى المنطقة.

سياق صعود محمد بن سلمان

تشكل العربية السعودية أحد أبرز الملكيات المطلقة في العالم بتقاليد سياسية مميزة يطبعها تركيز شديد للسلطة في يد الفرد الحاكم وعدم وجود مؤسسات وتشريعات واضحة المعالم حول كيفية تولي الحكم وشروطه وبالنظر لتعدد المرشحين المحتملين لتعويض فراغ السلطة يصير التنافس حول رئاسة الدولة أمرا محتمل الحدوث.

منذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز للعرش خلفًا لأخيه الراحل الملك عبد الله شهدت البلاد تطورات متلاحقة مثلت انقلابا واضحا على ثوابت ظلت سمة مألوفة طيلة عقود، ومن أهمها انتقال الحكم من أبناء الملك المؤسس عبد العزيز إلى جيل الأحفاد مع تعيين الأمير محمد بن نايف ولي للعهد واختيار الأمير محمد بن سلمان وليا لولي العهد في خطوة غير مسبوقة بحكم أنه ظل بعيدا عن الأضواء ولوجود مرشحين محتملين أكثر كفاءة ونضجًا وتمرسًا على العمل السياسي.

وفي خطوة غير معهودة أعلن ديوان الملكي بعد ذلك عن تنازل ولي للعهد محمد بن نايف عن منصبه لصالح الأمير الشاب محمد بن سلمان، حيث تم تبرير ذلك حسب نفس البلاغ بكونه نابعًا من الرغبة في الحفاظ على مصالح البلاد العليا، خاصة مع تردد الشائعات عن سوء وضعه الصحي وعجزه عن القيام بمهامه، ومن جهة أخرى فسر ذلك بالصراع المحتدم حول السلطة بين المحمدين، وأن ما جرى لا يعدو أن يكون انقلابا ناعما.

وما يدعم هذا الرأي جملة القرارت والأوامر الملكية التي وسعت من صلاحيات ولي ولي العهد آنذاك محمد بن سلمان على حساب محمد بن نايف، وأبرزها تجريد هذا الاخير من صلاحيات مهمة كفصل النيابة العامة عن الداخلية؛ مما أكد على أن الصراع حُسم لصالح سلمان وابنه على السلطة مع سيطرتهم على أهم المؤسسات الأمنية والعسكرية والإعلامية والدينية.

شكل صعود محمد بن سلمان حدثا مفاجئًا لكل المحللين، خاصة أنه ظل بعيدا عن الأضواء، ولم يسبق له أن تقلد أي منصب، بالإضافة إلى صغر سنه في بلد ظل اإى حدود الوقت القريب يسيره ساسة في خريف العمر، فمنذ تبوأ والده عرش المملكة، بدا نجمه في الظهور بشكل سريع وغير مسبوق بصلاحيات مطلقة ومساحة واسعة من الحرية في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية، بعد أن سيطر على أهم مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية.

ولعل هذا الصعود المفاجئ والمتسارع يطرح جملة من الافتراضات يمكن أن تفسر ذلك، وتتمثل في اتجاهين: الأول أن ذلك تم بطريقة مدبرة ومخطط لها سلفا في انتظار سياقات مناسبة لإنجاح هذه التحولات، بينما الاتجاه الثاني يشير إلى أن المسألة برمتها لا تعدو مصادفة، وأن الظروف الداخلية والخارجية حالفت الملك سلمان ونجله.

ولأن أي تحليل يقتضي عرض القرائن والبراهين،فلا يمكن تصور أن مسألة نجاح بن سلمان في الوصول إلى منصب ولاية العهد وتمكنه من إزاحة منافسيه يمكن أن ترتهن إلى الصدفة المحضة، فلا يمكن ذلك دون وجود دعم غربي ورضا أمريكي واضح خاصة، وهو ما يظهر من خلال التقارب الواضح في الاراء والمواقف خاصة العداء المشترك لإيران.

كما أن حجم القرارات يكشف دقة التخطيط القبلي بوجود ترتيبات واضحة، بدأت بتعيينه كوزير للدفاع ثم بعد ذلك تنصيبه كولي لولي العهد يصلاحيات واسعة تحت إشراف والده، ثم تعيينه وليًا للعهد في تجاهل تام لمقتضيات هيئة البيعة المسؤولة عن تداول الحكم.

وكل هذه القرارت تصب في اتجاه واحد هو تدعيم سلطة ولي العهد كرجل المملكة القوي، وإزاحة أية منافسة محتملة داخل العائلة الحاكمة، وجدت أرضية مناسبة للنمو تحت مظلة والده الذي بات يدعمه بشكل يبدو وكأنه ملك في الواجهة فقط مما يعيد للأذهان قصة الملك خالد ووليه عهده فهد الذي كلف بممارسة صلاحياته إلى غاية تعيينه كملك.

سياسات ابن سلمان ودلالاتها

استطاع الأمير الشاب في ظرف قصير نسبيا تعزيز مكانته، وأن يسوق نفسه للغرب كرجل للمرحلة قادر على قيادة بلد محوري، مفضلا نهجا اندفاعيا في ملفات خارجية منهيا عهد الديبلوماسية الحذرة فمن حرب اليمن الاندفاعية بداعي حماية خاصرة المملكة من خطر التمدد الايراني ممثلا في استيلاء الحوثيين في على السلطة والحصار الذي تشنه المملكة على قطر والتلويح باستخدام القوة العسكرية ضد حزب الله في لبنان بداعي تورطه في دعم الحوثيين في اليمن والتطبيع العلني مع الكيان الصهيوني.

ولإنجاح مساعيه الجادة في صراعه على السلطة وترسيخ شعبيته لدى فئات هامة من المجتمع كالمرأة والشباب كأطراف يمكن كسبها لنيل الشرعية اللازمة وتحديث بلاده سياسيا واقتصاديا، جاء إقرار رؤية 2030 التي تنص على تقليص الاعتماد على البترول وتنويع العائدات مرورا بالقرارت ذات الطابع الاجتماعي عبر قرارات منح المرأة لحق القيادة وانشاء هيئة الترفيه وتقليص صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والحملة الأخيرة على رجالات النظام السابق ممثلة في اعتقال العديد من الأمراء ورجال أعمال بذريعة تورطهم في صفقات مشبوهة ونهب للمال العام وكلها تبين حجم النفوذ المتنامي لابن سلمان وسطوته المطلقة على أهم مؤسسات المملكة.

وفي بلد اشتهر على الدوام بنزوعه المحافظ في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والدينية تبين حجم الأحداث الأخيرة على أننا نشهد بزوغ مملكة جديدة رابعة بملامح تشكل قطيعة مع الماضي خاصة الاتجاه المتزايد نحو تحجيم السلطة الدينية مع اعتقال العشرات من علماء ما يعرف بتيار الصحوة في رسالة واضحة على أن لا مجال للمعارضة حتى للمؤسسة الدينية التي ارست شرعية النظام الملكي السعودي منذ نشأته الاولى ومن جهة اخرى للتملص من شبهة التشدد التي لازمتها والاتهامات الموجهة لها بدعم التطرف.

إن هذه التطورات السريعة التي تشهدها السعودية في عهد سلمان وابنه سيترتب عنها لا محالة عدة انعكاسات ستشمل كل المنطقة حيث بدأت دوائر القرار في الغرب تبدي تخوفها الشديد من تركز السلطة في يد شاب متهور استطاع أن يزج بلده في العديد من الصراعات الخارجية، وأهمها الحملة العدائية على قطر وحرب اليمن التي تحولت من نزهة إلى ورطة ديبلوماسية وكارثة أخلاقية، ثم التحريض المتواصل على لبنان، وهو ما يمكن أن نعتبرها مغامرات سياسية لا يمكن التكهن بتداعياتها.

ومع احتدام الصراع داخل العائلة الحاكمة حول السلطة واتساع دائرة المعارضة للقرارت الاخيرة تتزايد مخاوف المراقبين من قدرة السعودية على مجابهة هذه التحديات التي تتورط فيها المملكة يومًا بعد يوم، خاصة أن الأنباء تتردد على استعداد الملك سلمان للتخلي عن السلطة لصالح ابنه.

يحدثنا التاريخ عن أن الأمراء الذي طبقوا مبادئ ميكيافيلي انتهوا إلى سقوط عروشهم، فهل سينجح ابن سلمان في حسم الرهانات المفروضة؟ أم سيكون ذلك تدشينا لمرحلة من الاضطرابات والأزمات؟ أسئلة ستجيب عنها الأيام القادمة.