اخبار سياسية عالمية

في وداع الخطاب الديموقراطي

كرم الحلو

 

اتسم الفكر العربي الحديث في كل حقبة من حقبات تطوره بهيمنة مقولة مركزية تتأسس عليها تصوراته الأيديولوجية ورؤيته الى المجتمع والإنسان والتاريخ. في العصر الليبرالي الذي دعي اصطلاحاً عصر النهضة العربية هيمنت مقولة الفوات التاريخي وكيفية تجاوزه من خلال اقتفاء حضارة الغرب واقتباس نظمه الدستورية والاجتماعية وثورته الفكرية والعلمية. ولم تلبث أن تسلّلت مقولة الاشتراكية الى الفكر العربي لتغدو لدى شريحة من الدعاة، الأساس الذي لا بد منه لتقدم مجتمعاتنا وحريتها. وإبان الزمن القومي، سادت مقولة التحرر والاستقلال ومقاومة الصهيونية والدعوة الحثيثة الى أشكال متباينة من الوحدة العربية.
في هذا السياق التطوري تقدمت مقولة «الديموقراطية» لتتصدّر اهتمامات الفكر العربي وتوجهاته منذ الربع الأخير من القرن الماضي، بعد الانقلابات الدرامية التي عرفها عالمنا في أنظمته السياسية وتحول دول وأقاليم كبرى من ديكتاتوريات الى ديموقراطيات تأخذ بإرادة الشعوب وحقها بالمشاركة في صياغة ما يلائمها من الأنظمة والأحكام. وإذ تجذرت هذه المقولة لتصبح الفكرة التأسيسية لكامل الحراك السياسي والاجتماعي في تلك الآونة، كتب محمد عابد الجابري في 1989: «المشكل المطروح هو مشكل الديموقراطية: مشكل انبثاق الحكم من إرادة المواطنين واختيارهم، وضمان إمكانية إسقاطه كلما تبين لهم أنه لا يمثل إرادتهم واختيارهم. هذا هو المشكل الحقيقي، أما باقي الأسماء والشعارات فتحمل من الزيف أكثر مما تحمل من الحقيقة.»
عليه، في رأي الجابري، جميع المشاكل داخل الوطن العربي وكل ظروف التخلف التي يعانيها، من استبداد وتبعية وتجزئة وطائفية وتخلف اقتصادي وثقافي، ما هي إلا نتيجة غياب الديموقراطية، ولا سبيل للقضاء عليها إلا بالديموقراطية التي هي السبيل الوحيد للوحدة المنشودة وركوب قطار التقدم والحفاظ على الوجود.
تمثل رؤية الجابري هذه أنموذجاً للتصورات الأيديولوجية التي طبعت الخطاب الديموقراطي في العقود الأخيرة، والتي ربطت بين الديموقراطية والوحدة والتنمية والحرية والتقدم وحقوق الإنسان. إلا أن تحولات الواقع العربي ومآلاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا تفتأ تخيب رهانات الترابط وتكشف زيفها وبطلانها. فليس صحيحاً أن الديموقراطية تؤسس للحرية والتقدم والوحدة والتنمية الاقتصادية، بل إن هذه جميعها هي التي أسست للديموقراطية تاريخياً وأيديولوجياً. فالليبرالية والوحدة والتقدم متقدمة تاريخياً على الديموقراطية، وقد انصرم قرنان أو أكثر على الليبرالية في أوروبا كي يأخذ الأوروبيون بالديموقراطية في السياسة والاجتماع. كما أن وحدة الأمم الأوروبية وتقدمها العلمي وقضاءها على أمية السواد الأعظم من مواطنيها، فضلاً عن الأفكار والقيم والمبادئ التنويرية التي نادى بها مفكروها وفلاسفتها وشقت طريقها الى أذهان الجماهير، مهدت كلها للانقلاب الديموقراطي الذي عرفه الغرب وانطلق منه الى العالم بأسره، فليست الديموقراطية إذاً هي التي قادت الى الوحدة أو الى الاشتراكية، بل إن الوحدة التي فرضت أحياناً بسياسات غير ديموقراطية كانت السبب في إرساء الديموقراطية. من هذا المنظور بالذات أيّد ماركس بسمارك، على رغم استبداده وطغيانه، في توحيد ألمانيا، لأن ألمانيا موحدة أقرب الى الاشتراكية في رأيه.
أما القول إن الديموقراطية هي الحل للتنمية، فتدحضه التنمية المرتفعة، والمرتفعة جداً لبلدان لا تأخذ بالخيار الديموقراطي، فيما أخرى تعاني من التخلف التنموي على رغم ديموقراطية أنظمتها.
تأسيساً على هذه الحقائق والمعطيات نذهب الى أن الرهان على الديموقراطية لركوب قطار التقدم والوحدة والحفاظ على الوجود، ما هو إلا رهان خائب أكّدته انتفاضات «الربيع العربي» التي فتّتت المجتمعات العربية عصائب وطوائف ومذاهب عوض أن تدفعها في اتجاه الوحدة أو التنمية أو التقدم أو الحرية. ولم يكن متوقعاً غير ذلك، لأن الجماهير التي هبت الى الساحات لم يكن في أجنداتها تصورات ليبرالية لعالم عربي جديد، ولا رؤية حداثية لقضاياه وإشكالياته القديمة والمتجددة. وهنا بالذات سر رهانها الخائب على إسقاط الطواغيت وأفول الاستبداد، فالديموقراطية المنزوعة من جذورها الليبرالية هي «المشكل» وليست الحل.