عالمية

قوة الدبلوماسية الخفية في قرار محكمة العدل الدولية

كيف يسع قرارات المحكمة المدروسة أن تساعد أميركا على كبح جماح إسرائيل؟

ديفيد كاي  الجمعة 2 فبراير 2024 1:00

 نائب المدعي العام الإسرائيلي جلعاد نوعام والمحامي مالكولم شو في محكمة العدل الدولية، لاهاي، هولندا، يناير 2024 (رويترز)

أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي، مراعية القانون وصلاحياتها معاً، حكماً أولياً لمصلحة الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة. ورأت أنه قد يرقى إلى الإبادة الجماعية.

وتبنت غالبية أعضاء فريق قضاة المحكمة الدولية، المؤلف من 17 قاضياً، قراراً يطالب إسرائيل ببذل كل الجهود الممكنة للحؤول دون الإبادة الجماعية، ومنع التحريض الداخلي على ارتكاب الإبادة الجماعية، وضمان توفير المساعدات الإنسانية الملحة والفعالة للفلسطينيين في غزة.

يرى فريق من الناس، في قراءتهم لقرار محكمة العدل الدولية، أنه مداخلة قانونية محدودة لم تقبل الطلب الرئيسي الذي تقدمت به جنوب أفريقيا وهو إصدار حكم يضع حداً للحملة الإسرائيلية الفتاكة. بل إن القضاة لوحوا بغصن زيتون للحكومة الإسرائيلية، وشددوا تشديداً لافتاً على أن أطراف النزاع في غزة كافة “ملزمون بالقانون الإنساني الدولي”، وطالبوا بـ”الإفراج الفوري وغير المشروط” عن أكثر من 100 رهينة إسرائيلية في قبضة “حماس”، والمجموعات الأخرى في غزة، إلى اليوم.

ويضمر حكم المحكمة في طياته طموحاً خفياً: فهو يتحدى كافة الدول، ولا سيما الولايات المتحدة، ويدعوها إلى التعامل بجدية مع القانون الدولي، في زمن تتعاظم فيه حدة العنف والنزاعات، ويتردى احترام سلطة مؤسسات القانون الدولية.

وفي ضوء المشهود من فشل محاولات إدارة بايدن الحد من أضرار الحرب على المدنيين، ألقت المحكمة بطوق نجاة للإدارة، يمكنها من انتهاج سياسة جديدة تجاه النزاع تستند إلى الأعراف الدولية. وعلى البيت الأبيض أن يتبنى قرار المحكمة، ويستخدمه أداةً دبلوماسية جديدة لوقف العملية العسكرية الإسرائيلية، وإرغام “حماس” على إطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم وتسومهم قسوة غير مقبولة.

وسطية بالغة الأهمية

ليس القرار الصادر في 26 يناير (كانون الثاني) سوى بداية المقاضاة أمام محكمة العدل الدولية. ويرجح أن تقتضي الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل سنوات من التقاضي قبل البت في الاختصاص القضائي، وفي جوهر دعوى ارتكاب إبادة عرقية.

وقد وافقت المحكمة على استمرار هذه الدعوى. وفي الأثناء، يفوق رد فعل الولايات المتحدة وأوروبا، وطريقة تعاطيهما مع حكم المحكمة، أهمية قرار المحكمة.

ولو اكتفت واشنطن، وغيرها من القوى الغربية، بالالتفاف حول إسرائيل، لما خاطرت بإلحاق المزيد من الضرر بالقانون الدولي، وما يُسمى النظام الدولي القائم على القواعد الذي أيدته هذه القوى، وذلك في قضايا سابقة نظرت فيها محكمة العدل الدولية، مثل الدعوى التي رفعتها أوكرانيا ضد الهجوم الروسي في عام 2022، ودعوى ارتكاب إبادة عرقية رفعتها غامبيا ضد ميانمار في عام 2019، في ضوء معاملتها لأقلية الروهينغيا. وهي تخاطر بإثارة المزيد من الاستياء في أوساط عدد كبير من حكومات العالم، ومن بينها شطر كبير من الجنوب العالمي، التي دعمت المحكمة، سابقاً، وتؤيد إجمالاً قضية جنوب أفريقيا.

والحق أن أي طعن خطابي في قرار المحكمة سيخلف تبعات سياسية داخلية على الرئيس الأميركي، جو بايدن، وهو يباشر حملة انتخابية تكتنفها صعوبات كثيرة ناجمة من خيبة الأمل الكبيرة التي يشعر بها المجتمع الأميركي-العربي، جراء احتضان الإدارة غير المشروط لإسرائيل، منذ هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول).      

وتبدو الرهانات المعلنة بالغة الأهمية، نظراً لقرار محكمة العدل الدولية المضبوط (نسبياً) والوسطي. فلو صدر قرار أكثر حدة، لعقد ذلك رد الفعل الأميركي. فلو قبلت المحكمة طلب جنوب أفريقيا أن تصدر قراراً بإنهاء العملية العسكرية الإسرائيلية، لرفضت الولايات المتحدة وإسرائيل حكم المحكمة.

ومع أن القراءة المتأنية لرئيسة محكمة العدل الدولية، جوان دونوغيو، للحكم جسدت خطورة الوضع في غزة، تبنت الرئيسة لغة معتدلة، وتلافت ذكر بعض الأمثلة القوية على الدمار والموت التي سبق أن أوردتها جنوب أفريقيا في دعواها، في 84 صفحة، ومرافعتها الشفوية طوال ثلاث ساعات أمام المحكمة في منتصف يناير (كانون الثاني).

ومن ناحية أخرى، كان في وسع المحكمة رد دعوى جنوب أفريقيا، وتبني الموقف الإسرائيلي الذي يحمل مجرد المطالبة بالرد على ادعاء، على وجود نية بارتكاب جريمة إبادة جماعية، وإهانة أخلاقية. وهذه المقاربة تتعارض كلياً مع القلق العالمي البالغ من ضخامة الخسائر بالأرواح في غزة.

وعلى ما توقع معظم المراقبين المطلعين على الموضوع عن كثب، استندت المحكمة، في قرارها، إلى قانونها الأساسي الخاص. وأظهرت حذراً في تحديد اختصاصها الذي يخولها النظر في الدعوى، وقالت إنه يقع في إطار القضايا الأخيرة التي نظرت فيها، ودخلت في باب الإبادة الجماعية.

وأصدرت ستة إجراءات موقتة- أي ما يعادل الأمر القضائي في هذه المحكمة-، ولم تفتح آفاقاً قانونية جديدة، وأعادت التأكيد على التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي. وعملت المحكمة بقواعدها الخاصة في شأن الأسئلة الأساسية. فبناءً على قضايا سابقة مماثلة، وافق القضاة على أن جنوب أفريقيا استجابت شرط حد الإثبات الأدنى لكون المحكمة تمتلك اختصاص النظر في دعوى الإبادة الجماعية المرفوعة ضد إسرائيل، وأكدت، في الوقت نفسه، أن هذه الخلاصة لا تعني أن المحكمة أثبتت انتهاكاً لمعاهدة حظر جريمة الإبادة الجماعية بالفعل.  

والأمر البارز، وسنده قانون محكمة العدل الدولية، هو أن المحكمة تلفظت بسلسلة من الخلاصات التي انتهت إليها الأمم المتحدة في شأن الدمار الواقع في غزة بعد أكثر من ثلاثة أشهر على الحملة الإسرائيلية. فهي وجدت أن “الحقوق التي طالبت بها جنوب أفريقيا، وطالبت بحمايتها، معقولة”- وهذا هو المعيار الأدنى الذي كان على جنوب أفريقيا أن تلتزم به لكي تصدر المحكمة تدابير موقتة.

وفي معرض تلاوة الحكم، لفتت القاضية دونوغيو إلى تصريحات على لسان “كبار المسؤولين الإسرائيليين”- ومن بينهم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، والرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتسوغ- وصفتها جنوب أفريقيا، وغيرها، بأنها تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم إن لم نقل إنها دعوة إلى الإبادة الجماعية.

وجاء رد المحكمة على طلب جنوب أفريقيا الطارئ، وهو من المعايير الأساسية أيضاً بحسب تشريعها، في بيان قد يكون الأكثر جدية: “في ظل هذه الظروف، تعتبر المحكمة أن الوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة يُهدد بخطر التدهور جدياً قبل أن تلفظ المحكمة حكمها النهائي”.      

وعلى رغم الاعتدال الظاهر في قرار المحكمة، إلا أنه حكم بالإدانة. فقبل استمرار الدعوى على أساس زعم جنوب أفريقيا بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، ما يشكل تهديداً محتملاً، ليس لإسرائيل وحدها ولسلوكها مستقبلاً في غزة، بل كذلك لأولئك الذين دعموها دعماً قوياً، على غرار الولايات المتحدة.

المحكمة وجدت معقولية في تأكيد جنوب أفريقيا على ضرورة حماية الفلسطينيين من أفعال الإبادة الجماعية. وحتى القاضي أهارون باراك، وهو ندبته إسرائيل إلى تمثيلها في المحكمة، ضم صوته إلى الأصوات التي طالبت إسرائيل بمنع التحريض العلني والمباشر على ارتكاب إبادة جماعية، واتخاذ “كافة التدابير الفورية والفعالة” التي تؤول إلى وصول المساعدات الإنسانية. وهذه نتائج جدية، تعكس القلق القانوني العالمي بشأن الوضع الإنساني في غزة.    

وفي الوقت نفسه، تكمن قوة قرار المحكمة في الجهود التي بذلها القضاة، في سبيل عزل قرارهم عن لغة السياسة أو التحزب، وإثباته في إطار السوابق القضائية. كما أن قرار المحكمة المهم بالتخلي عن المطالبة بأمور لا تمتلك هذه الهيئة أي سلطة فعلية لتنفيذها، من دون دعم مجلس الأمن في الأمم المتحدة- أي نهاية العملية العسكرية الإسرائيلية- يزيد من أهمية التدابير التي طالبت بها. وأشارت المحكمة كذلك إلى أن القرارات مُلزمة للأطراف المتقاضية كلها. وما تطالب به المحكمة، في جوهره، هو أن تحترم إسرائيل ما يدرك كثيرون بالفعل أنها التزامات توجبها معاهدة حظر الإبادة الجماعية.

ما يجب أن تفعله واشنطن

في الأسابيع التي سبقت صدور حكم المحكمة، في 26 يناير، ضمت الولايات المتحدة صوتها إلى إسرائيل في وصف دعوى جنوب أفريقيا بأنها تفتقر إلى أساس وجوهر. وفي مستطاع الولايات المتحدة، إن أرادت، أن تدفع بهذه الحجة في المحكمة، باعتبارها طرفاً متدخلاً في القضية مع تقدمها. ولكن المسألة التي أثارها قرار محكمة العدل الدولية الأولي مختلفة.

وتقف إدارة بايدن، الآن، أمام معضلة حادة لا يمكن حلها ببيانات سطحية حول ضرورة إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة. فالتحدي الذي طرحته المحكمة أمام الولايات المتحدة هو أن الجيوسياسة وحدها غير كفيلة بأن تكون سبيلاً لإنهاء النزاع. يجب أن يكون للقانون الدولي دور أساسي، كما أن الالتزامات القانونية ذات معنى ووزن. وإلى ذلك، فإن عدم احترام الولايات المتحدة لهذه المعايير القانونية التي يكاد يُجمع عليها العالم، قد يقوض فعلاً شرعية اعتبارها زعيمة النظام العالمي القائم على القواعد.

ومنحت المحكمة الولايات المتحدة وأوروبا ذريعة جديدة لمطالبة إسرائيل بتغيير مقاربتها في غزة. ويقدم هذا الحكم لإدارة بايدن فرصة التأكيد على استيائها الشديد والمستند إلى القانون الدولي، من خطاب التجريد من البشرية الذي ورد على لسان بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية اليمينية. ويعطي واشنطن فرصة للضغط على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ليفعل أكثر من مجرد التصريح، مرة أخرى، بأن أهداف إسرائيل هي “القضاء على حماس”، ومساءلة حلفائه والعسكريين الذين استخدموا لغة تدمير غزة وسكانها الفلسطينيين.

ويتقدم هذا كله واجب الولايات المتحدة الرد على القرار، والاعتراف بمسألة أساس هي أن إسرائيل ملزمة بمنع حوادث قد يصدق وصفها بأنها إبادة جماعية. والإدارة ليست مضطرة لتبني وجهة نظر جنوب أفريقيا بأن أعمال إسرائيل تشكل في الواقع إبادة جماعية- وهو منظور لم تتبنه محكمة العدل الدولية نفسها، وقد لا تتبناه في نهاية المطاف. ولكن عليها الجواب عن إعراب المحكمة، في قرار أيدته غالبية ساحقة، عن قلقٍ مشروع وجدي من الأفعال الإسرائيلية.

ومع دعمها لحق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، يمكن للولايات المتحدة أن تعزز مطالبات المحكمة لإسرائيل باتخاذ خطوات ملموسة تحول دون استعمال العنف ضد المدنيين في غزة، ودون إنزال الدمار الشامل في البنية التحتية التي وحدها تجعل غزة مكاناً أهلاً للحياة، وتعاقب على هذا الاستعمال.

وليست الولايات المتحدة متفرجاً عادياً، سواء على الأعمال العسكرية الإسرائيلية، أم على إنفاذ القانون الدولي. فقد استخدمت واشنطن، بالفعل، قوة السلطة التي تتمتع بها محكمة العدل الدولية في الماضي، حين أسهمت في اضطلاع المحكمة، في تحقيق العدالة الدولية الآنية، وذلك من طريق رفعها دعوى على إيران في محكمة العدل الدولية في عام 1979، وطالبتها بإطلاق سراح الأسرى الأميركيين المحتجزين في السفارة الأميركية بطهران. ومنحت المحكمة الولايات المتحدة فرصة التأكيد من جديد على التزامها التاريخي ذاك. وعلى إدارة بايدن أن تنتهز هذه الفرصة.

*ديفيد كاي بروفيسور في كلية الحقوق بجامعة كاليفورنيا إيرفين وباحث متميز حائز على منحة فولبرايت لعام 2023-2024 في مجال القانون الدولي العام في جامعة لوند السويدية