مقالات

لا يكفي الميلاد كي نحبّ بعضنا بعضاَ

 
حازم صاغية
 
 
ما لا ينتبه إليه القوميّون والدينيّون في الولايات المتّحدة بشكل كافٍ أنّهم بهذا يحوّلون عيد الميلاد، الموصوف بعيد المحبّة والطفولة، إلى مناسبة نزاعيّة وحربيّة تزيد في انقسام السكّان وتقسيمهم ممّا بات شائعاً ومتعارفاً عليه أنّ عيد الميلاد، المسيحيّ الأصل، هو عيد للمحبّة والاحتفال بالطفولة. البعض بيننا لا يهمّهم كثيراً أن تكون مصالح تجاريّة واستهلاكيّة عريضة وراء هذه الهويّة التي اتّخذها الميلاد. ولا يهمّم بالتالي أن تكون آلة خفيّة وراء العيد تحضّ على البيع والشراء. ما يهمّهم، في المقابل، هو النتيجة: إنّنا نحبّ بعضنا ونحبّ خاصّة الأطفال، أطفالنا وأطفال غيرنا، فنشتري لهم الهدايا والألعاب ونقيم لهم شجرة مضاءة وملوّنة تزيدهم فرحاً وسعادة.
 
بمثل هذه الدلالات والرمزيّات الكثيرة، باتت المناسبة الميلاديّة تتجاوز المسيحيّين أنفسهم، بحيث نرى عائلات وأفراداً مسلمين ويهوداً وبوذيّين وملاحدة يزيّنون في بيوتهم شجرة الميلاد كيما يحملوا الفرح والبهجة إلى صغارهم ويتبادلوا مشاعر المودّة في ما بينهم.
 
بلغة أخرى، انفصل عيد الميلاد عن أصله كمناسبة دينيّة مسيحيّة ليكتسب بُعداً عابراً للأديان والطوائف والجماعات. وفي المعنى هذا بدأت جماعات تعدّديّة التوجّه، في الولايات المتّحدة الأمريكيّة كما في أوروبا، تواكب هذا المعنى الجديد الذي يتّسع للجميع. من هنا، راحت تظهر بطاقات معايدة بـ “العُطل” وبـ “فصل الحبّ” وما إلى ذلك من تسميات تتجاوز التسمية الدينيّة الضيّقة والحصريّة.
 
وهذا من حيث المبدأ ما يُفترض أن يُفرح قلب المؤمن المسيحيّ الذي يرى أنّ الآخرين إنّما يشاركونه عيده واحتفاله وطقوسه، وأنّهم يمارسون ما كان يمارسه هو، من غير أيّ تحفّظ أو مسافة.
 
لكنْ لا! فالرئيس دونالد ترامب وبعض رموز اليمين الدينيّ والقوميّ في الولايات المتّحدة رأوا في تلك التحوّلات ما يُخيفهم وما يهدّد باندثار عالمهم. هكذا، وليس للمرّة الأولى، أكّد الرئيس الأمريكيّ أنّه يريد إعادة الاعتبار للمعايدة بـ “عيد ميلاد مجيد”، تماماً كما يريد إعادة الاعتبار لـ “عظمة أمريكا”. ولم يخل الأمر من تهجّمات على مؤسّسات وقوى ونُخب ليبراليّة ممّن يُفترض أنّهم “فرّطوا” بعيد الميلاد، وخصوصاً منهم الرئيس السابق باراك أوباما، مع الغمز ضمناً من قناة أصوله “غير الصافية” مسيحيّاً.
 
وبالطبع، فإنّ المقاربة هذه لا تُخفي بَرَمها العميق بكلّ إضافة يضيفها المهاجرون أو اللاجئون أو الأجانب إلى المألوف الأمريكيّ العتيق والمؤمثل.
 
وكان الأمر ليكون مجرّد نكتة لولا أنّ ذاك اليمين جعل من المسألة صرخة حرب ضدّ التعدّديّة الدينيّة والثقافيّة ذهاباً إلى تاريخ حصريّ بائد. وبهذا ضُمّ عنوان آخر إلى عناوين “الحرب الثقافيّة” الدائرة منذ عقود في الولايات المتّحدة بين أصحاب النظرة القوميّة والدينيّة الضيّقة التي ترفض أن تغيّر أيّ شيء في ما “عهدناه مع الآباء والأجداد” وأصحاب النظرة التي تواكب تحوّلات العالم المعاصر ومستجدّاته التي تخلخل تراكيب الصفاء والعزلة.
 
وكان البريطانيّون في الستينات قد عاشوا سجالاً مشابهاً سُمّي فيه القوميّون البيض المتشدّدون أنصار “انكلترا الصغرى”، أي أولئك الذين لا يكتفون برفض الأجانب بل يرفضون أيضاً سائر البريطانيّين (الاسكتلنديّين والوايلزيّين والإيرلنديّين الشماليّين). ذاك أنّه، وبحسب ما تؤكّد تجارب لا حصر لها، كلّما ذهبنا بعيداً في تنقية التاريخ ذهبنا بالقدر نفسه في فرز الواقع وتجزئته.
 
واليوم يبدو أنّ ما لا ينتبه إليه القوميّون والدينيّون في الولايات المتّحدة بشكل كافٍ أنّهم بهذا يحوّلون عيد الميلاد، الموصوف بعيد المحبّة والطفولة، إلى مناسبة نزاعيّة وحربيّة تزيد في انقسام السكّان وتقسيمهم.
 
فهل على هذا النحو يتمّ تعميم الميلاد ونشره؟