ثقافيه

هاملت في فلسطين… المأساة ليست بالضرورة على المسرح

“يدخل الشبح” للبريطانية إيزابيل حماد تحقق روائياً في جريمة مخزية وقعت ولا تزال في بلادها الأصلية

أحمد شافعي  كاتب ومترجم

لا يحدث إلا لسعداء الحظ فقط، أو ربما التعساء، أن يبلغوا الرشد مرة واحدة في العمر  (لوحة “الفارس الأبيض” لرينيه ماغريت ـ ناشيونال غاليري، لندن)

في أوائل سنوات هذا القرن عرضت في إطار مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي مسرحية لفرقة أوربية عنوانها “هاملت لو سمح الوقت”.

كان العرض مبهراً بقدرات ممثليه الفذة على الارتجال والتفاعل مع الجمهور ومحاورته، وبمقدرتهم على الخروج بمسخرة عظيمة من المسرحية التي حازت مكانتها الخالدة في الأدب العالمي بمأسويتها، وربما لم يتكرر في دورة أخرى من دورات المهرجان أن فازت بجائزته الكبرى مسرحية كوميدية، واليوم في مطلع العقد الثالث من القرن تعمل فرقة مسرحية أخرى على هاملت، لكنها في هذه المرة فرقة من فلسطين وعرضها في الضفة الغربية، وإن يكن ذلك كله يحدث بقوة الخيال وفي رواية.

“يدخل الشبح” هي الرواية الثانية للروائية الفلسطينية البريطانية إيزابيل حماد التي صدرت أخيراً عن دار “جروف بريس” في ما يربو على 300 صفحة، ولعل عنوانها لو صح حدسي فصحت ترجمتي له مأخوذ مباشرة من الملاحظة المسرحية التي يعلن بها وليم شكسبير دخول الشبح، شبح الملك القتيل، أبي هاملت ودافعه إلى تحقيقه الجنائي والوجودي في الجريمة المخزية الذي انتهى إلى المأساة الخالدة. ثمة شبح إذاً يحقق في جريمة مخزية وقعت ولم تزل تقع في فلسطين.

في استعراضها للرواية ]نيويورك تايمز – 31 مارس (آذار) 2023[ تربط ليلي ماير بين “يدخل الشبح” وفئة أو نوع من الروايات المعروفة في الغرب بروايات بلوغ الرشد، ولعلها تغنينا عن التعريف بهذه الروايات بقولها إن أحداثها عادة ما تصل إلى “لحظة يتحول فيها أبطالها غير الراشدين إلى راشدين”. وتضرب لهذه الروايات مثالاً من المؤكد أنه يغنينا وحده عن التعريف بخصائص هذا النوع من الروايات، فالمثال لا يقل عن “الحارس في حقل الشوفان” طاغية الشهرة لسالنجر، غير أن ماير سرعان ما تنأى بـ “يدخل الشبح” عن هذا النوع الروائي، إذ تكتب أنه “في الحياة الواقعية لا يحدث إلا لسعداء الحظ فقط، أو ربما التعساء، أن يبلغوا الرشد مرة واحدة في العمر، ففي أكثر الأحيان يحدث بلوغ الرشد مراراً، وفي انفجارات مذهلة لا وتيرة ثابتة لها”.

غير أن “يدخل الشبح” وإن لم تكن بالضبط من روايات بلوغ الرشد فإنها رواية تكتشف بطلتها نفسها الحقيقية أو هويتها، فهي بمعنى من المعاني تبلغ الرشد أيضاً.

الرحلة إلى الجرح

تكتب ليلي ماير أن الرواية “ترتكز على امرأة تمر في حياتها بانفجارة نمو وجودية، وهذه المرأة هي سونيا، ممثلة بريطانية فلسطينية في أواخر الثلاثينيات من العمر تتعافى من علاقة غرامية مضطربة مع مخرج كان قد أثار آمالها، لا في حياتها الغرامية وحدها وإنما في مسيرتها المهنية المتعثرة أيضاً، وفي أعقاب فشل هذه العلاقة تقوم سونيا برحلة طويلة”.

وتبدأ الرواية بوصول البطلة إلى مطار واستجوابها وتفتيشها ذاتياً ثم السماح لها بعبور مكتب الجوازات لتجد في وجهها لافتة “مرحباً بكم في إسرائيل”، وتمضي الرحلة بسونيا إلى حيفا حيث نشأ والدها وحيث تعيش أختها حنين وغايتها من هذه الرحلة أن تلعق جراحها، وتقضي وقتاً طيباً مع أختها ثم ترجع إلى لندن وقد تجددت نفسها، فإذا بها بدلاً من ذلك تتلقى عرضاً لتمثيل “هاملت” في الضفة الغربية فيفضي بها قرار المشاركة إلى السعي نحو معرفة سياسية وعائلية أيضاً وإلى صحوة أليمة في الوقت نفسه.

وفي الموقع الإلكتروني لمجلة “ذي باريس رفيو” الأمريكية المرموقة نشرت إيزابيلا حماد في الثاني من مارس 2023، مقتطفات مطولة من يوميات كتبتها في أثناء معاركتها للرواية “الخميس الـ 21 من مايو (أيار) 2020″ أشعر أنه ما الغاية من أي شيء، الذهاب إلى الأماكن، رؤية الناس، فعل أي شيء، إن هي إلا طرق لإهدار الوقت”. الجمعة، 29 مايو 2020: أمس مر على (ل) بالدراجة يعجبني وهو صديقي، بدا مسروراً أنني في شبه علاقة مع شخص وإن استشعرت شيئاً من الغيرة، لكنها في الغالب حميدة.

وقال إن علاقته مستقرة وألمح إلى أنها تفتقر بعض الشيء إلى الشغف لكن من يدري ما الحقيقة؟ أعتقد أنه يشعر أنني التي أفسدت ما كان بيننا وأنني لم أكن جديرة بالثقة، لكنني أعرف أنه أيضاً كان يقابل واحدة في ذلك الوقت فلا أشعر بالذنب فعلاً، لم يكن ما بيني وبينه لينجح أصلاً”.

لا أعرف هل يخلص قارئ المنشور في “ذي باريس ريفيو” إلى أن هذا الجزم (من قبيل “لا أشعر بالذنب” و”ما كان بيننا لم يكن لينجح”) ينم عن قناعة حقيقية، أم هو محض “لعق للجراح” كالذي تنشده سونيا من زيارتها لحيفا على حد تقدير ماير، لكن ربما ما يمكن الخروج به هو أن ثمة مساراً مفتوحاً بين هذه اليوميات والرواية، وربما بين إيزابلا وسونيا مساراً ربما يجدر التحقق منه في غير هذه السطور.

تكتب سادي جونز في استعراضها للرواية ]”غارديان” – 29 مارس 2023 [ أن “سونيا تقرر في مستهل الرواية أن تستقل سيارة أجرة إلى عكا عاقدة العزم على “رؤية مشهد جميل في البداية”، وفيما هي واقفة أعلى جرف ومطلة على السابحين تحتها، تشعر أنها منفصلة عن البحر الأزرق الناصع، إذ لم تزل تعاني صدمة التفتيش الذاتي، وتتخيل نفسها ساقطة على ما تحتها من صخور “مهشمة في لحظة مراقة الدم على الصخور”، فتتكلم في سيارة الأجرة مع السائق الفلسطيني بالإنجليزية، “أقاوم فكرة أن بيني وبين هذا الشخص رابطة”، وبهذا الرفض لوجودها تصل سونيا إلى أرض أسلافها أو بالأحرى “يدخل الشبح”.

تشعر سونيا بأنها منفية عن طفولتها وعن البلد ذاته، وهي غير متأكدة من شرعية انتمائها وتشعر بالاستياء من ماض لم تكشف لها أسرتها عنه، وتبحث في تاريخ عائلتها فيفضي البحث إلى لحظة تصفها سادي جونز بـ “العميقة الحزن”، إذ تستمع إلى شريط مسجل لجدتها عام 1994 تقول فيه بصوت متقطع “حتى لو لم يكن بوسعي أن أعيش فيها فسوف ترتد في الروح حين توجد دولة فلسطينية”، وفي تلك اللحظة، بتعبير جونز، “ينصت شبح إلى حديث شبح”.

غير أن سونيا في معرض بحثها عن تاريخ أسرتها “تدافع عن نفسها وتتقي مشاعرها فتصر على أنها سائحة وتظل تتنقل من يوم إلى يوم ومن مكان إلى مكان وفي حقيبتها منشفة شاطئية”، فيا لها من لقطة ساحرة!

وتبقى سونيا كذلك إلى أن “تعرفها أختها حنين بمريم المخرجة المسرحية”، فلا تكون “الذاكرة أو العائلة هي التي تبعث الحياة في سونيا وتربطها بفلسطين، وإنما العمل”، أو هو بالأحرى الفن.